وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْماعيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيار (48)
واذكر عبادنا ابراهيم واسحاق ويعقوب... تذكر الآيات ستة من انبياء اللّه الكرام وتأمر بذكرهم تنبيها على الاقتداء بهم. والظاهر أنّ الآيات تصنّـفهم صنفين فثلاثة منهم نالوا في حياتهم مكانة اجتماعية مرموقة وبقي لهم بعد وفاتهم ذكر خالد وأتباع يفتخرون بهم، ويذكرونهم ويتبعونهم، او يدعون انهم اتباعهم، وثلاثة منهم لم يبلغوا هذه المنزلة في الدنيا بل ربما لم يكن لهم ذكر في المجامع والجوامع، ولكنهم كلهم من الاخيار فيجب ذكرهم وذكر مآثرهم والاقتداء بهم، فالمقبولية لدى الناس وعدمها لا يؤثران في مقام الانبياء والرسل. وكذلك كل من نال منصبا الهيا كالائمة المعصومين عليهم السلام.
كما أنّ من سبق ذكرهم هنا وهم داود وسليمان وايوب يجمعهم ما نالوه في هذه الحياة من ملك وجاه ومال. والحاصل أن المذكورين من الانبياء في هذه السورة ثلاثة اصناف ذكر من كل صنف ثلاثة تنبيها على عدم الفرق من جهة لزوم الاتباع بين من ملك وحكم، ومن كان وجيها في الدنيا، ومن لم يكن كذلك.
ونظيره ما ورد من الاختلاف في قوله تعالى بعد ذكر سيدنا ابراهيم عليه السلام: (...وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحين * وَإِسْماعيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمينَ) الانعام 84ـ86. فان الستة المذكورين أولا ممن ملكوا وحكموا، وأربعة بعدهم ممن اتبعهم الناس وأشادوا بذكرهم، وأربعة لم ينالوا ذلك ايضا.
اولي الايدي والابصار... المراد على الظاهر ان لهم بصيرة في الامور، وأنهم اقوياء في ما يريدون، فيكون ذلك اشارة الى قدرتهم الذاتية، او الى مكانتهم الاجتماعية التي جعلتهم كذلك، فان الزعماء انما يقوون بأتباعهم فالأتباع بمنزلة الايدي والابصار.
انا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار... المعروف بين المفسرين أن المراد بقوله تعالى (أخلصناهم) جعلناهم خالصين وأنه اشارة الى عصمتهم، والباء في (بخالصة) للسببية اي بسبب خصلة فيهم خالصة، وخلوصها اما بمعنى كونها خاصة بهم، او لكونها خالصة من الشوائب. وقوله (ذكرى الدار) بدل عن الخالصة اي تلك الصفة الخالصة هي ذكرى الدار والمراد بها الدار الآخرة، وحاصل المعنى انا اخلصناهم وعصمناهم لخصلة خالصة فيهم وهو أنهم كانوا دائما متذكرين للآخرة.
والتكلّف واضح في هذا التفسير وان أصرّ عليه اكثر المفسرين من جهة جعل الباء للسببية، مع أن الصفة اتي بها نكرة ولم تضف اليهم، وكان ينبغي ان يقال انا اخلصناهم بصفة خالصة فيهم، كما يستبعد اعتبار هذه الصفة سببا لاخلاصهم خصوصا اذا فسرناه بالعصمة، ومن جهة اخرى يستبعد ايضا اعتبار ذكرى الدار خاصة بهم او كونها خالصة من الشوائب، كما يستبعد ايضا حمل الدار على الآخرة من دون قرينة. ولم يأت في القرآن بهذا المعنى مطلقا بل مضافا الى الآخرة.
ويحتمل ــ كما قيل ــ ان يكون المراد به أنّ اللّه تعالى جعل لهم خاصة هذا الذكر الجميل في الناس، فالمراد بالدار دار الدنيا، والاخلاص بخالصة بمعنى ان هذا الشان مما يخصهم من بين الانبياء السابقين، فان الاخلاص بمعنى الاصفاء لان الخلوص هو الصفاء فيفيد التخصيص، كما يفيده الاصفاء في قوله تعالى (أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ) الاسراء: 40، والخالصة بمعنى كونه خاصا بهم ايضا كما قال تعالى (قُلْ هِيَ لِلَّذينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَة..) الاعراف: 32، وقوله تعالى: (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللّه خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ..) البقرة: 94، وغير ذلك. فالتعبير بالخالصة يؤكد الاختصاص بهم. والمعنى أنّا خصّصناهم بأمر خاصّ بهم من دون سائر الانبياء وهو ذكرى الدار اي الذكر الجميل في الدنيا.
ونحن نجد اليوم انهم مكرمون لدى كافة أتباع الاديان السماوية من اليهود والنصارى والمسلمين، كما قال تعالى في شان ابراهيم واسحاق ويعقوب عليهم السلام (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) مريم: 50، فان الظاهر ان المراد بلسان الصدق هو الذكر الجميل الذي يختص به ابراهيم واسحاق ويعقوب، وقد دعا به ابراهيم لنفسه حيث قال (وَاجْعَلْ لي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرين) الشعراء 84.
ويحتمل ايضا ان يكون المراد بذكرى الدار ذكرى دارهم اي البيئة التي عاشوها والسنّة التي تركوها، وينطبق ايضا على ما كني عنه بلسان الصدق واللسان العليّ من بقاء ذكرهم الخالد ومجدهم التليد.
والجملة بكاملها كيفما فسرت تعليل لبعض ما سبق، فقيل: انه تعليل لقوله (اولي الايدي والابصار) واختاره العلامة الطباطبائي قدس سره، وذلك لانهم حيث تمعنوا في ذكرى الدار الآخرة اصبحوا اولي الايدي والابصار. وقيل: تعليل لقوله عبادنا. وهو بعيد جدا.
والصحيح أنه تعليل لقوله (واذكر عبادنا) اي اذكرهم لهذا السبب، وذلك لانه هو الموضوع الاساس فينبغي أن يعلل. والتعليل بناءا عليه يعود الى أن التذكير يجب ان يتركز على هذه الجهة فكأنه قال اذكر ما خصصنا به عبادنا حيث اخلصناهم بخالصة.. ويتضح ذلك اكثر بملاحظة الجملة التالية (وانهم لمن المصطفين الاخيار) اذ لا معنى لتعليل ما ذكر بها وانما يعلل بها التذكير بالتقريب الذي ذكرناه اي واذكرهم فإنهم من المصطفين الاخيار.
وانهم عندنا لمن المصطفين الاخيار... اي انهم مع كونهم ذوي ذكر رفيع وجميل في التاريخ يعتبرون عندنا من المصطفين الاخيار. وأكّد على ذلك بحرف التاكيد (إنّ) وبلام القسم.
والمصطفى من اختاره اللّه تعالى من بين عباده للرسالة او الامامة. والاخيار جمع خير، وفيه اربعة وجوه ولا يمتنع جمعها في الارادة من اللفظ:
1- ان يكون بمعنى افضل كقوله تعالى: (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) البقرة: 198 فهؤلاء الرسل من الافضلين.
2- ان يكون بمعنى المختار فيكون بنفس معنى المصطفين.
3- ان يكون صفة مشبهة مخففة عن خيّر بالتشديد اي من يصدر منه الخير، والخير كل ما هو مطلوب ومرغوب لجميع العقلاء فهذا توصيف لهم بملاحظة أعمالهم.
4- ان يكون في مقابل الشر ويكون اطلاقه على الانسان من باب المبالغة فحيث لا يصدر منهم الا الخير فكأنهم هم الخير بنفسه. وهذا أقرب المعاني.
واذكر اسماعيل واليسع وذاالكفل وكل من الاخيار... تبيّن وجه افرادهم بالذكر. واسماعيل هو ابن ابراهيم عليهما السلام، والذبيح الذي مر ذكره والاشادة بمقامه في سورة الصافات، وهو جد الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم وجدّ كثير من العرب.
واليسع ورد اسمه في سورة الانعام عند ذكر الانبياء من ذرية ابراهيم وتقسيمهم الى ثلاثة اقسام كما ذكرناه آنفا. قال تعالى: (وَإِسْماعيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمين) الانعام: 86، ولا نعلم عنه شيئا غير ذلك. واختلف في انه هل هو يوشع بن نون او انه اليشع الوارد في التوراة او غيرهما مما لا يؤثر في الهدف القرآني.
وذوالكفل ايضا ورد اسمه في موضع آخر قال تعالى: (وَإِسْماعيلَ وَإِدْريسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرين) الانبياء: 85، ومن الواضح أن هذا الاسم ليس هو الاسم العبري له، فهذا اسم عربي ولعله صفته او كنيته.
والكفل بمعنى النصيب والكفالة والضعف من الاجر او الوزر وما يشابهها. واختلفوا ايضا في تحديد هويته وتمسك كل بما لا دليل على حجيته، وهناك قرية باسمه في اواسط العراق بين الكوفة والحلة، وفيه قبر قديم له منارة غريبة ويقال انه قبره عليه السلام، وقد دخلت حرمه قبل حوالي اربعين سنة ولعله كان في سنة 1385 هجرية قمرية، ورايت في زواياه كتبا قديمة بالعبرية، قيل لنا انها مما تركته اليهود بعد هجرتهم الى فلسطين المغتصبة، ولا ادري لعلها باقية حتى الآن، وهذا يدل على انهم كانوا يعتقدون ان هذا القبر لاحد عظماء بني اسرائيل.
ومهما كان فان اللّه تعالى يمدح هذه المجموعة من الانبياء ايضا بانهم من الاخيار باحد المعاني المذكورة او كلها كما مرت الاشارة اليه. والغرض كما اسلفنا التنبيه على انه لا يختلف الانبياء في لزوم متابعتهم والاشادة بهم بين من وفّق لتأسيس حكومة نبويّة كموسى وهارون عليهما السلام، او ملكية كداود وسليمان عليهما السلام، او ملك الارض وكانت له سلطة وان لم يكن ملكا كيوسف وايوب عليهما السلام، او لم يملك ولكن كان له صيت في المجتمع وذكر خالد واتباع يشيدون به كابراهيم واسحاق ويعقوب عليهم السلام، او كانوا خاملي الذكر سواء من عرف ببعض مآثره كاسماعيل ويونس ولوط عليهم السلام، او لم يعرف عنه شيء كادريس واليسع وذاالكفل عليهم السلام.
هذا هو الذي توحيه الينا الآيات المشار اليها في سورة الانعام وهنا. والحمد للّه رب العالمين.