قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللّه الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذيرٌ مُبينٌ (70) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فيهِ مِنْ رُوحي فَقَعُوا لَهُ ساجِدينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْليسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرينَ (74) قالَ يا إِبْليسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالينَ (75) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَني مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعينَ (85)
قل انما انا منذر... شروع في الفصل الاخير من السورة، وفيه تذكير بالتوحيد والرسالة، وذكر قصة الانسانية الاولى، وسبب نزول الانسان الى هذا الكوكب وابتلائه وامتحانه، ويبدأ بابلاغ الناس عن دور الرسول وانه ليس الا منذرا بالخطر المحدق بالانسان، وما سيواجهه من أخطار يصغر عندها كل ما يتصوره ويحذره من اهوال الدنيا.
وهذه الجملة التي تحصر وظيفة الرسول في الانذار ــ بناءا على دلالة انما على الحصر ــ تستبطن تخلّيه عن كل مسؤولية تجاه تغافل المخاطبين عن انذاره ورسالته، وهو بدوره يستبطن تهديدا بان ما يخاف منه واقع لا محالة.
ويتبين بذلك ان هذا التخلي عن المسؤولية وقصر دور الرسول في الرسالة كناية عن هذا التهديد، وهو تعبير متعارف في مثل هذه الموارد، ومنها قول هود عليه السلام: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُم..) هود: 57، فان ابلاغه واضح وانما أراد بذلك تهديد القوم بما يستتبعه هذا الابلاغ. وهكذا غيره مما تكرر في القران الكريم، فلا ينافي ذلك وجود وظائف اخرى للرسول.
وما من اله الا اللّه الواحد القهار رب السماوات والارض وما بينهما العزيز الغفار... هذه الجملة تؤكد على ان الالوهية واستحقاق العبادة خاص باللّه تعالى. والاله هو المعبود، فذكر الاوصاف الشريفة كالاستدلال على انحصار الالوهية فيه تعالى وعدم جواز عبادة غيره، وذلك بعد الاعتراف بوجوده وخالقيته وثبوت هذه الصفات له تعالى.
فهو أولا واحد لا شبيه له ولا شريك في اي صفة من صفاته تعالى. وه له ولا شريك في اي صفة من صفاته تعالى. والوحدة هنا ليست بمعنى الوحدة العددية، كما قال اميرالمؤمنين عليه السلام: (واحد لا بعدد) وقال عليه السلام: (الاحد لا بتاويل عدد) وهو واضح فان الواحد بهذا المعنى يصدق على كل شيء لوحده ولا يختصّ به سبحانه، فاللّه تعالى واحد بمعنى انه بسيط ليس له جزء خارجي، لان الكل يحتاج في تقوّمه الى اجزائه، ولا يتركّب ايضا من ماهية ووجود. وما كان كذلك فليس له جنس ونوع، وليست هناك ماهية ذاتية تنطبق عليه وعلى غيره فلا يشابهه شيء ولا يشاركه.
وهذه الصفة تدل على انه ليس هناك شيء يشارك اللّه في صفة من صفاته وان كل صفة مشتركة انما تطلق عليه وعلى غيره بلحاظ وحدة المفهوم من اللفظ وليس بلحاظ وحدة الحقيقة في الواقع الخارجي، فالعالم مثلا يطلق على اللّه وعلى الانسان ولكن بمعنى من يعلم شيئا، واما حقيقة العلم الالهي لا تشابه ما في الانسان ولا يمكن للانسان درك تلك الحقيقة فكيف بتوصيفها؟!
ومن هذا الباب الصفات التي تقتضي الالوهية اي استحقاق العبادة فانها ايضا مختصة به تعالى فهو المدبر للكون، ومنه كل خير وشر ونفع وضرر، فهو وحده الذي يخاف ويرجى. والعبادة لا يستحقها الا من كان كذلك.
وثانيا هو القهار لكل شيء، بمعنى أنّ كل شيء خاضع لارادته، لانّ الخلق والامر بيده، واليه يرجع الامر كله، فلو كان هناك شيء يؤثر في الكون مستقلا غيره تعالى لم تصدق قهّاريته على الجميع. والالوهية لا تكون الا لمن يؤثر في الكون مستقلا، ولا يؤثر غيره الا باذنه، فيعبد طلبا للخير ودفعا للشر.
وثالثا هو ربّ السماوات والارض وما بينهما، والربّ هو الذي يربّي ويدير ويدبّر. والسماوات والارض وما بينهما عبارة عن كل الكون، فما من شيء الا وهو مربوب له تعالى فلا يمكن ان يفرض شيء الها ومعبودا غيره، لانّ كل ما يفرض الها فهو محتاج اليه ومفتقر في تربيته ورشده وتكامله الى تدبيره تعالى، فكيف يمكن ان يكون الها؟! ثم انّ وحدة النظام الكوني وانسجامه دليل واضح على وحدة الربّ والمدبّر.
ورابعا هو العزيز الغفار. واللام وضمير الفصل يدلان على حصر الصفتين بكمالهما فيه تعالى، فلا عزيز غيره، ولا عزّة الا به. والعزّة هي الصلابة وعدم التأثّر، فاللّه تعالى لا يؤثّر فيه شيء بل هو المؤثّر في كل شيء. وما من أثر الا به وبارادته، وكل شيء ذليل لديه، ولذلك فهو الذي يجب ان يحذر منه ويتقى ويعبد، ومن لاذ به وعبده حق العبودية فلا يخاف شيئا ولا يهاب احدا ولا يحزنه شيء.
وهو تعالى في نفس الوقت غفّار للذنوب اي يستر على عباده نواقصهم واخطاءهم. والغفّار صيغة المبالغة، ولعله باعتبار سعة غفرانه وشموله لكل أحد ولكل ذنب الا ما استثني. ولولا غفّاريته لم يبق احدا ولم ينج من عذابه احد، فالكل مقصرون في اداء حقه كما هو.
ثم ان الوصفين معا بمنزلة دليل واحد على الوهيته تعالى لانه بعزته يهاب ويتقى وبغفاريته يرجى ثوابه والعبادة تتبع الامرين.
قل هو نبأ عظيم * انتم عنه معرضون... اختلف المفسرون في مرجع الضمير (هو) وانه هل هو الامر السابق اي التوحيد ام القرآن ام القيامة ام الرسالة؟ والظاهر انه هو القرآن ويشهد عليه قوله تعالى في آخر السورة (ان هو الا ذكر للعالمين * ولتعلمنّ نبأه بعد حين). فالقرآن هو النبأ العظيم الذي اعرض عنه قريش وعرب الجزيرة، وليعلمنّ نبأه بعد حين.
وهذه الآيات تؤكد على انه حق، وأنه يحمل في طياته أنباءا عظيمة. وينبه هنا على احدها وهو نبأ تكوّن البشر الاول وكيفية نزوله على هذا الكوكب.
ما كان لي من علم بالملإ الأعلى اذ يختصمون... اي لولا الوحي لم أكن أعلم بما جرى في العالم العلوي، وقبل نزول البشر الى الارض بل قبل تكوّنه، وانما اخبرت به عن طريق الوحي، وهذا الاخبار ليس الا للانذار، وليس مجرد سرد للحوادث، فالقران ليس كتاب تاريخ او قصص.
والمراد بالملإ الأعلى عالم الملائكة. ونحن لا نعلم عنه شيئا الا ما اخبرنا به القران الكريم. والعلو هنا ليس العلو الحسي بل المراد تنزّهه وترفّعه عن الطبيعة وخصائصها. والملأ كل تجمّع يملأ العين عظمة واجلالا، فالتعبير عن الملائكة بذلك اما لكثرتهم او لعظمة مكانهم وقربهم لدى اللّه سبحانه. والمراد بالاختصام التقاول ومبادلة الحديث حيث يحصل ذلك عند المخاصمة فعبّر عنه بالاختصام.
وربما يقال: ان التقاول لم يكن الابين اللّه تعالى والملائكة، وبينه تعالى وابليس لعنه اللّه، ولا يمكن ان يعتبر الباري سبحانه من الملأ.
والجواب ان هذا انما يتم على تقدير ان الاختصام هو ما ورد ذكره في هذه الآيات ونحوها، ولكن يمكن ان يكون المراد الاشارة الى ما وقع بين الملائكة، او بينهم وبين ابليس من التقاول، وكذلك بينهم وبين آدم عليه السلام، وقد ورد ذكر بعضها في الروايات بل ورد ذكر بعضها في القرآن حيث قال تعالى (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ..) البقرة: 33.
ان يوحى إليّ الا أنّما انا نذير مبين... يمكن أن تكون (أنّ) في قوله (أنّما) في محل الرفع على انه نائب الفاعل، وليس المراد ظاهره من قصر الوحي في ذلك كما هو واضح، بل المراد قصر دور الرسول على الانذار، وهذا ايضا من باب المبالغة اذ لا شكّ أنّ دوره حتى في مقام التعليم اكبر من ذلك، الا ان خطورة ما ينذر به وهو المستقبل المظلم للبشرية تصحّح هذه المبالغة، فكأنّ دوره مقتصر على الانذار بما يحيط بالانسان من الخطر، فالغرض تعظيم هذا الدور وإكباره.
ويمكن ان تكون (أنّ) في محل الجر باللام المقدّرة، بمعنى ان هذا الامر ــ اي نبأ يوم القيامة ــ انما اوحي اليه صلى اللّه عليه وآله وسلم لانه نذير مبين، فيكون المراد انّ الغرض من ذكر هذا الامر والتنبيه عليه ليس سردا لحادث وبيانا لتاريخ، بل هو انذار للبشر ليعلم ما يطلب منه، ويتنبّه لموقعه من الكون، وانما اوحي به الى الرسول لكي ينذر به.
اذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين... هذه الآيات ونظائرها مما ورد في مبدأ خلق الانسان تردّ على فرضية النشوء والتطور التي يتبنّاها بعض من يسمون علماء العصر، ويتباهون بها، ويحاولون اثباتها. ولا وجه لمحاولة بعض كتّاب العصر من المسلمين تطبيق الآيات على هذه الفرضية فانها محاولة فاشلة، والآيات صريحة في انّ الانسان خلق من طين، وأنّه أصل برأسه، وأنّه يختلف عن سائر الموجودات الحيّة اختلافا جوهريا بالروح الانسانية، او بالاحرى الروح الالهية التي نفخها فيه ربه تكريما و تشريفا.
ولا يغرّنّك التعبير عنها بالنظرية العلمية، او ما تسمعه من انّ العلم يدعم هذه الفرضية، وانه لا سبيل الى انكارها، فانها لا تتعدى فرضية واحتمالا في تفسير الكائنات الحية واختلاف انواعها، الا انه احتمال تدعمه الملاحظات العلمية في كثير من الموارد. وهذا لا يبرّر التعبير عنها بالنظرية، وذلك لانها لا تتعدى حدسا وتخمينا، بل هي تخرّص على الغيب، وأما بالنسبة لخلق الانسان فلا يصح تبنّي هذه الفرضيّة قطعا.
وقوله تعالى (اذ قال ربك) ظرف متعلق بـ (اذكر) او بدل عن قوله (اذ يختصمون) فهو يبين ما وقع في ظرف الاختصام. ومهما كان فقد ورد ذكر هذه القضية في موارد عديدة من القرآن الكريم، ولعل التعبير بـ (ربك) اشارة الى ما لهذه القصة من الدور في تربية الانسان لانها تحكي عن مرحلة من مراحل نشوئه وتطوره، بل تحكي عن عالم آخر كان الانسان موجودا فيه، وكان حسب ما ورد في سورة طه منعّما بعيدا عن المضايقات الحاصلة على ظهر هذا الكوكب قال تعالى: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى) طه: 118-119.
ويظهر من قوله تعالى (فبدت لهما سوءاتهما) طه: 121 أنّ البشر قبل هبوطه الى الارض لم يكن يشعر بالحاجة الجنسية ايضا، فالبشر في ذلك العالم كان مغايرا في صفاته للبشر بعد الهبوط، ومع ذلك كان مخلوقا من مادة ارضية.. من الطين...من صلصال من حمأ مسنون.
والبشر ــ بفتحتين ــ مأخوذ من البشر ــ بكسر الباء ــ وهو على ما في معجم مقاييس اللغة: ظهور الشيء في حسن وجمال، ومنه البشارة والاستبشار، ولعل تسمية هذا الموجود به مما يدل على كونه ظاهرا، في مقابل الجنّ المتستر، وفي مقابل سائر أنواع الحيوان حيث انه احسنها واجملها، قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) التين: 4.
والطين هو التراب الممتزج بالماء في اشارة الى مبدأ تكون الانسان في الطبيعة حيث كان الخطاب للملائكة والجن، فاراد اللّه تعالى ان يبين لهم وجه اختلافه معهم في تكوّنه. وهذه الآيات تشير الى ان الانسان ذو جانبين جانب ارضي يشار اليه بخلقه من الطين، وجانب علويّ يشار اليه بنفخ الروح، وهو بذلك يواجه الملائكة ويسابقهم.
فاذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين... أخبر اللّه سبحانه ملائكته انه سيخلق بشرا من طين، وأمرهم ان يسجدوا له بعد تسوية خلقه ونفخ الروح فيه.
والمراد بالتسوية ــ على ما يبدو ــ إكمال خلقه وصنع جميع أعضائه، ولعلها لا تتمّ الا بالحياة، فهي تغاير نفخ الروح. والظاهر ان المراد بنفخ الروح خلق النفس البشرية التي تميّزت من بين الخلائق بالارادة والاختيار، وهو خلق آخر للانسان وتطوّر له، كما قال تعالى: (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللّه أَحْسَنُ الْخالِقين) المؤمنون: 14. ولذلك اضاف الروح الى نفسه تشريفا، واما الروح بمعنى ما به الحياة فليس لها كرامة خاصة ولا تختصّ بالانسان.
ويظهر من التعبير بالوقوع للسجدة لزوم فوريّته. ولعله إشارة الى عدم انتظار أمر آخر من بروز صفة خاصة كالعلم والتقوى، فيستفاد منه أنّ السجود لنفس صفة البشرية ونفخ الروح لا لأمر آخر.
ولا شكّ ان المراد ليس هو السجود بالمعنى الذي نعرفه بل هو مطلق التذلل والخضوع، فهو نظير قوله تعالى (وَللّه يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ) النحل: 49، وقوله تعالى (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا) البقرة: 58، اذ لا يمكن الدخول في حال السجدة؟! فلا بد من حمله على مطلق التذلل والخضوع.
وربما يستغرب الأمر بالسجود لغير اللّه تعالى خصوصا اذا كان ذلك من الملائكة وهم أشرف الخلق كما يقال، فهل كان هذا السجود من جهة أنّ آدم عليه السلام نبيّ وأراد اللّه تعالى بذلك إعلاء شأن الانبياء من البشر؟
أم كان رمزا لخضوع الملائكة أمام الجنس البشري لا خصوص آدم عليه السلام وذلك لانّ من ذريته من هو أشرف الخلق، وهم محمد واهل بيته الطاهرون سلام اللّه عليهم اجمعين كما ورد في بعض الاحاديث؟
أم كان رمزا لما أراده اللّه تعالى من إعطاء القدرة والاختيار للانسان فلا بد من ان تطاوعه القوى الحاكمة في الوجود كما لا بد من مطاوعة القوى الطبيعية له، والملائكة هي القوى الحاكمة في الكون والمدبرة لاموره بامر اللّه تعالى كما قال سبحانه: (فالمدبرات امرا) النازعات: 5، بل يحتمل ان يكون الامر بالسجود كناية عن الامر بهذه المطاوعة؟
أم إن له سرّا آخر لا تبلغه افهامنا؟
لا نتعدى سرد الاحتمالات في مثل هذه الامور الغيبية وان كان يقوى في النفس ان يكون الامر هنا كناية عن الامر بالمطاوعة وانّ المسجود له جنس الانسان، ويشهد له اطلاق الامر بالسجود لمجرد تكوّنه بشرا سويا ونفخ الروح الالهية فيه فلا يتوقف السجود على كونه نبيا او غير ذلك.
ويشهد لكون المسجود هو جنس الانسان قوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ..) الاعراف: 11، وذلك لأن المفروض في هذه الآية أن الأمر بالسجود صدر بعد خلق البشر كلهم وتصويرهم فتدل الآية على تقدم خلق جمعي للانسان، ثم تصوير لهم بكيفية مجهولة لنا في آدم عليه السلام. ويمكن أن يكون المراد انه كان يمثّل البشرية، وهذا يفسّر او يقرّب لنا قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا...) الاعراف: 172.
فسجد الملائكة كلهم اجمعون... لعل المراد بالتاكيد الاول (كلهم) انه لم يشذّ منهم أحد كما هو مقتضى عصمتهم، وبالثاني (اجمعون) انهم سجدوا مجتمعين، فلعل فيه اشارة الى انّ انقياد القوى الحاكمة التي تدبّر الكون للانسان انقياد متناسق، فالكل يعمل باختياره بمنزلة أداة واحدة وجهاز واحد بأمر الخالق القهّار جلّ وعلا.
ويحتمل ان يكون المراد التاكيد على عدم استثناء احد منهم، والسبب في ذلك ان استثناء ابليس ربما يوهم احتمال وجود استثناء آخر فأراد بالتأكيد بيان أنّه لم يشذّ منهم أحد نهائيا.
الا ابليس استكبر وكان من الكافرين... شـذّ من المخاطبين بالحكم ابليس لعنه اللّه، وكان في مجموعة الملائكة ومأمورا بأمرهم وان لم يكن منهم بل كان من الجن قال تعالى: (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) الكهف: 50.
وحيث انه لم يعتصم بعصمة اللّه سبحانه واعتمد على نفسه وما يوحيه اليه اجتهاده حتى في مواجهة الاوامر الالهية، ولم يدرك بالمحاسبة والقياس وجه الحكمة في هذا السجود، فاستكبر وأبى ان يطيع ربه ويتعبد بأمره، وأعلن العصيان وكفر بذلك، وخرج عن ربقة الايمان، كما نجده في كثير من البشر حتى بعض المؤمنين فانهم اذا لم يجدوا في حكم من احكام اللّه تعالى حكمة تقنعهم لا يخضعون له ولا يعملون به.
وهذا هو الاستكبار، واصله طلب الكبر وهو كناية عن الاعجاب بالنفس والترفّع على الآخرين، وأقبحه الترفّع على اللّه تعالى ورفض الانصياع لاوامره.
ويلاحظ هنا أنّ الكفر ليس مساوقا لانكار الربوبية كما يتوهم، فان ابليس كان يعترف بالرب بل يعبده ويطيعه، ولكنه في هذا المقام استكبر وطغى وعصى امر ربه نتيجة مقارنته بين ما يمتاز به من معدن الخليقة ومعدن الانسان، حيث وجد نفسه اشرف منه لانه مخلوق من النار وهي في رأيه اشرف من الطين، خصوصا اذا كان منبته (من صلصال من حمأ مسنون) والصلصال قيل انه طين منتن، وقيل انه يابس له صوت، والحمأ الطين المنتن، والمسنون المتغير كقوله تعالى (فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) البقرة: 259.
وهكذا أصبح إبليس يقود العصاة المستكبرين في الكون وأصبح مثلا للاستكبار والطغيان بوجه الحق. ومن هنا يتبين أنّ البشر الذي يقيس أحكام اللّه تعالى بعقله واذا لم يجد فيها الحكمة المنشودة رفض الانصياع امامها يتبع ابليس بتمام معنى الكلمة.
وابليس مأخوذ من الابلاس وهو اليأس على ما قالوا، وفيه كلام سياتي ان شاء اللّه تعالى. وورد في الحديث أنّ يأس ابليس من رحمة اللّه اعظم من عصيانه واستكباره، والسر واضح لان يأسه هو السبب في استمراره على الطغيان، واقتياده اكبر عدد ممكن من الخلق نحو معصية الباري جل وعلا. وهذا منبّه اخر للانسان أن لا ييأس من رحمة اللّه اذا عصى وطغى.
قال يا ابليس ما منعك ان تسجد لما خلقت بيديّ... مخاطبة واستجواب بين الرب الجليل والمخلوق العاصي الحقير. ولا نعلم كيف تمّت هذه المحادثات؟
هل أسمع اللّه تعالى إبليس كلاما كما كلّم موسى عليه السلام، أم أرسل اليه ملكا يبادله الحديث، أم أوحى اليه كما أوحى الى اُمّ موسى عليهما السلام، أم أنّ هذا مجرد تجسيد وعرض لحقيقة كونيّة يمثّلها هذا التخاطب؟ وربما يرجّح ذلك الاختلاف الجوهري في العرض حسب الموارد المختلفة في الكتاب العزيز، أم له وجه اخر لا نفهمه؟
ومهما كان فالخطاب الوارد في بدو الاستجواب (يا إبليس)، ولو صحّ ما قالوه من انه من الابلاس بمعنى اليأس فكيف خوطب به وهو بعد لم ييأس اذ لم يؤمر بالخروج؟!
وهذا يرجّح احتمال ان يكون بمعنى آخر، فقد قيل: إنّ الابلاس بمعنى السكوت والوجوم والتحيّر والانكسار. وكل هذا ينطبق عليه بعد ما تجرّأ وخالف الامر الالهي.
ثم إنّ الخطاب الالهي هنا يتضمّن الاعتراض على عدم سجود ابليس مع أن آدم خلقه الله تعالى بيديه فهو خلق عظيم يستدعي أن يُسجد له، ولكن الخطاب في سورة الاعراف لا يتضمن ذلك بل يتضمن الاعتراض على عدم الاطاعة حيث قال تعالى: (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ..) الاعراف: 12، ولعل الخطاب في الاصل كان شاملا للامرين فاختير في كل مورد من النقل والحكاية بعضه حسب ما يناسب المقام.
والظاهر أنّ المراد بقوله تعالى (لما خلقت بيديّ) الاشارة الى عظمة خلقة الانسان وشرافته. ولعلّه عبّر عن آدم عليه السلام بـ (ما خلقت..) للاشارة الى أنّه انما يستحقّ السجود لانّ اللّه تعالى خلقه بيديه. وهذا كناية عن مزيد الاهتمام والعناية به كما في قوله تعالى خطابا لموسى عليه السلام (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) طه: 39، مع أن كل مخلوق يصنع على عينه وبأمره وارادته تعالى الا أنّ هذا الخطاب يدل على مزيد العناية به.
والكناية هنا بلحاظ انّ الانسان اذا اهتمّ بشأن ما يصنعه او يصلحه استعمل يديه معا فأصبح التعبير باستعمال اليدين كناية عن مزيد الاهتمام بالشيء.
ويمكن ان يكون كناية عن تركّب خلقه من إنشاءين كما قال تعالى (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ) المؤمنون: 14، وهو اشارة ــ على ما يبدو ــ الى نفخ الروح المضافة الى اللّه تعالى تشريفا وتكريما ممّا يدلّ على انّه خلق في مرحلتين: مرحلة التكوّن الطبيعي وهو الخلق من الطين، ومرحلة نفخ الروح الكريمة المتعالية، وهو في هذه المرحلة اشرف من حيث الخلق والذات من غيره كما قال تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) التين: 4.
فيكون هذا البيان في الاستجواب ردّا على ما سيجيب به ابليس قبل ان يجيب باعتبار ان نفخ الروح الالهية هو الذي استوجب كونه اشرف من غيره وان كان خلقه من طين، فلا وجه لمقايسة الطين بالنار.
ثم إنّ التعبير بضمير المتكلم المفرد يتضمن الاشارة الى عناية اخرى، فكأنّه تعالى بنفسه باشر الخلقة في هذا المخلوق من دون واسطة، وأكّد ذلك باضافة اليدين ايضا اليه سبحانه بخلاف قوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدينا أَنْعاما..) يس: 71، فان ضمير الجمع ربما يحكي عن أن الخلق تم في إطار العوامل الطبيعية وأما خلق روح الانسان فكان من اللّه تعالى مباشرة.
هذا وقد ذهب السلفيّة الى أنّ اليدين بمعناه المتعارف، وأنّ اللّه له يد ورجل وسمع وبصر ولكنها تختلف عن ما في الخلق!! تعالى اللّه عمّا يقولون علوا كبيرا.
أستكبرت ام كنت من العالين... السؤال والترديد في هذه الجملة للكشف عن الدافع لترك السجود، وأنه هل هو الاستكبار او كونه من العالين. ولا شك أنّ المراد ليس كونه عاليا في الواقع بل المراد الترفّع وادّعاء العلو، وهو عبارة اخرى عن الاستعلاء، كما قال تعالى (مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ) الدخان: 31، وقال (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ..) القصص: 4. ويبدو من أول ملاحظة أنّ الاستكبار والاستعلاء أمر واحد. وهناك محاولات في التفاسير لإبداء الفرق بينهما.
والصحيح أنّ استكباره أمر مفروغ عنه وقد صرّح به في الآية السابقة، حيث قال تعالى (الا ابليس استكبر..) والظاهر أن المراد به هو الترفّع عن إطاعة الله تعالى، فإنّ الواجب على العبد أن يطيع ربّه من دون تريّث، ومن دون بحث عن حكمة الأمر او النهي، فاذا عصى العبد بداع من الشهوة او الغضب او الطمع او الحاجة او نحو ذلك فلا يعدّ استكبارا أما اذا عصى ترفّعا من الاطاعة مع عدم معرفة الحكمة في الامر فهو الاستكبار.
وعليه فالترديد بينه وبين ادّعاء العلوّ في هذه الجملة لأخذ الاعتراف منه أنّ هناك أمرا آخر وراء الاستكبار وهو أخطر منه وأقبح. وهو ادّعاء أنّ هذا الأمر فاقد للحكمة، وأنّ الحكمة تقتضي خلاف ذلك لأنه من العالين أي أعلى وأرفع مقاما من آدم عليه السلام فلا ينبغي أن يسجد له، فهو مضافا الى ترفّعه من الاطاعة ينسب الحكم الالهي الى عدم موافقته للحكمة، وهذا هو الذي اعترف به اللعين في الآية التالية بكل وقاحة.
قال انا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين... ومعنى ذلك أنّ الحكمة تقتضي ان لا تأمرني بالسجود فانا خير منه ذاتا، والنتيجة أنّه لم يكتف بالعصيان والطغيان بل ادّعى انه أعلم من اللّه تعالى بوجه الحكمة.
وهذه السخافة والحمق وان لم يصرّح بها البشر العصاة الا أنّ كثيرا منهم يدّعونه في قرارة انفسهم والا فما هو السبب في استنكارهم للاحكام الثابتة في الشرع، والمصرح بها في الكتاب العزيز، واستنكافهم من تطبيقها، لولا انّهم يدّعون في قرارة انفسهم انّها لا توافق الحكمة، وانّ اللّه تعالى لم يحكم على أساس الحكمة والعلم، وأنهم اعلم بوجه الحكمة منه تعالى ؟!!!
ثم إن خلق الشيطان من النار ورد في عدة مواضع من القرآن الكريم ولكن كيفية خلقه منها مجهولة لنا، وكذلك خلق آدم عليه السلام من طين ومن صلصال من حمأ مسنون.
قال فاخرج منها فانك رجيم... وهكذا صدر الخطاب العلوي. ولعله خطاب تكويني حسم مصير الاستكبار ومزاعم العلم والدهاء الى أبد الآبدين.
والفاء في قوله فاخرج يدل على انّ هذا الحكم مترتّب على ما أبداه ابليس من الاستكبار والطغيان، وادّعاء كونه اعلم بوجه الحكمة من ربه، مما يدل على ان الاخراج مترتب على هذا الامر كعقوبة حتمية وأثر طبيعي، ولا يختص بابليس.
واختلفوا في مرجع الضمير في قوله (منها) هل هو رحمة اللّه تعالى ام الجنة ام السماء ام غيرها؟
والظاهر انّ المراد هو السماء اي العالم العلويّ لقوله تعالى (قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرينَ) الاعراف: 13، فانها تدل على ان سبب الاخراج انه لا يمكنه ان يتكبر في السماء فلا يصحّ عود الضمير الى الرحمة واما الجنة فلم يسبق القول بانّ ابليس دخلها، مضافا الى أن التعبير بالهبوط يناسب هذا الاحتمال دون غيره.
والرجيم بمعنى المرجوم بالحجارة كناية عن الطرد والاخراج بصغار وذلّة.
وإنّ عليك لعنتي الى يوم الدين... اللعنة هي الابعاد والطرد. ويبدو من بعض كتب اللغة أنها خاصة بالطرد من الله او من رحمته تعالى. وعليه فاذا اسند الى غيره فهو دعاء بالابعاد.
ويبقى السؤال عن وجه التحديد الى يوم الدين مع انّ اللعن لا ينتهي بذلك.
والجواب انّ المراد استمرار اللعن الى يوم الدين وفيه ايضا. ويوم الدين لا أمد له، فالنتيجة انّ عليه اللعنة الابديّة.
قال رب فأنظرني الى يوم يبعثون... لجأ اللعين الى الاسترحام والاستعطاف بقوله: (ربّ) بعد ان طغى على ربه واستكبر، وذلك لانه ينظر الى هذا الامر وهو الامهال من زاوية هدفه وغايته، وهو إشباع غريزته من الحقد والحسد الدفين على بني آدم، فحيث كان هذا الامر يخصّه بزعمه تشبّث بالاسترحام وطلب من اللّه سبحانه ان يمهله الى يوم القيامة ليخدع بني آدم ويغرّهم ويوردهم موارد الهلكة كما هلك هو بسببهم.
ولكن الواقع أنّ اللّه تعالى أراد ذلك تكوينا، ولذلك أمره بقوله عزّ من قائل: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُم..) الاسراء: 64، فالشيطان جزء من نظام الخليقة ولابد منه في السير التكاملي للانسان، ولولا الدعوة الى الشرّ لم يكن في اختيار طريق الخير فضل لاحد، ولولا الاغراء والاغواء لم يتحقق الامتحان والابتلاء الذي هو الهدف الاسمى لنزول الانسان على الارض، بل هو الهدف من خلقه فانّ اللّه تعالى خاطب الملائكة بقوله: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً..) البقرة: 30، ولكنه بعد خلقه واسجاد الملائكة له اسكنه جنته ونهاه عن الشجرة وسلّط عليه الشيطان مع تحذيره منه فكانت النتيجة ان الانسان نزل الى الارض بسوء اختياره.
وهذا من عجيب حكمة اللّه تعالى في خلقه فانه برحمته الواسعة لا يريد باحد هبوطا ونزولا عن مقامه الا بسوء اختياره، وينطبق ذلك ايضا على لعن ابليس وطرده ثم ابقائه لنشر الطغيان والعصيان ليتعاظم جزاء معصيته وطغيانه واستكباره الذي هو اول طغيان على اللّه سبحانه، وهو مصدر كل طغيان وعصيان، وليكون هذا التعاظم ايضا نتيجة عمله وسوء اختياره فتركه يطلب الانظار والامهال لتتحقق امنيّته التي تهوي به في الهاوية وينال جزاءه المناسب لعظم ذنبه وطغيانه، وليجرّ معه كل من يستحق الهاوية بسوء عمله، واختياره متابعة الشيطان على إطاعة الرحمن.
قال فانك من المنظرين الى يوم الوقت المعلوم... تكرّرت هذه الآيات في سورة الحجر ايضا. ويبدو من تغيير عبارة الجواب عما طلبه انه لم يمهل الى يوم الدين الذي هو يوم الجزاء، فهل المراد من الوقت المعلوم يوم النفخة الاولى حيث قال فيه تعالى (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللّه..) الزمر: 68 او بينه وبين النفخة الثانية التي قال فيها سبحانه (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ)؟
ورد هذا الاحتمال في بعض روايات السنة والشيعة. ولا يبعد ذلك.
قال فبعزتك لاغوينهم اجمعين... أقسم اللعين بعزّة الباري جلّ وعلا تأكيدا على تعزّزه وتعصّبه وتصلّبه، فالقسم لابد ان يناسب المقسم به فعلى الانسان ان ينتبه انّ الشيطان لا يألو جهدا في اغوائه وجرّه الى النار، فقد اقسم بعزّة ربه امام ربّه في ذلك العهد السحيق. وأكّد الجملة بنون التاكيد، وبقوله اجمعين. وقد وهبه اللّه تعالى قوة على ذلك، وأمره بان يجرّ جيشه الجرّار على كل من يتبعه (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ..) الاسراء: 64، وهو يعمل عمله دون ان يشعر به الانسان (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) الاعراف: 27.
الا عبادك منهم المخلصين... استثنى اللعين من كل العباد من يختصّ باللّه تعالى فأضافهم الى اللّه ووصفهم بالمخلصين ــ بفتح اللام ــ اي الذين اخلصهم اللّه تعالى لنفسه وعصمهم من الشيطان، وهم المعصومون من الانبياء والاوصياء عليهم السلام.
وقد مرّ في تفسير سورة الصافات أنّ المخلصين ــ بفتح اللام ــ غير المخلصين ــ بالكسر ــ فالاوّل خاص بمن أخلصهم اللّه تعالى، الا أنه كما يمكن اختصاص هذا العنوان بالمعصومين يمكن تعميمه للمؤمنين باعتبار أن اللّه تعالى أخلص قلوبهم للايمان وأبعدهم عن الشرك، ولكن الظاهر أن المراد بالعنوان في هذه الآية خصوص المعصومين عليهم السلام لاختصاصهم بالعصمة عن إغواء الشيطان.
قال فالحقّ والحقّ اقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين... الفاء في اول الجملة للسببية والتفريع، فان ابليس تعزّز امام ربه وهدّد بانه سيغوي بني آدم. وهذا الجواب بمعنى ان ذلك لا يهمّني ولا يضرّ نظام الخلق فانّ المصير المعدّ لك ولاتباعك هو جهنّم.
والحقّ الاول مقسم به بتأويل (الحقّ قسمي) وقرئ بالنصب فيكون منصوبا بنزع الخافض وهو حرف القسم، والمقسم عليه قوله تعالى (لأملأنّ..). وقوله (والحقّ أقول) جملة معترضة للتأكيد. ويفهم من تقديم المفعول الحصر، اي أنّ اللّه تعالى لا يقول الا الحقّ.
وممّا يلفت النظر كثرة التأكيد في هذا العهد الازلي، ففيه القسم بالحقّ، ثمّ التأكيد بانّ اللّه تعالى لا يقول الا الحقّ، ثم لام القسم في (لأملأنّ)، ثم نون التأكيد الثقيلة، ثمّ التأكيد بقوله (اجمعين)، لئلا يبقى اي احتمال للتخلف عن هذا العهد فيمنّي الظالمون أنفسهم بالأماني الكاذبة.
وقال المفسرون: انّ المراد بقوله تعالى (منك) اي من قبيلك وذريتك. ولعل الوجه في تاكيدهم على ذلك انّ الآية لم تتعرض لشياطين الجنّ وكفرتهم، ولا بدّ من شمول العهد لهم فأوّلوا ضمير الخطاب بذلك.
ولكن الظاهر انه لا حاجة الى هذا التأويل، لانّ مورد الكلام هو ابليس ومن يتبعه من البشر، وليس هذا عهدا عامّا فلا ضير ان لم يشمل بعض من يستحقون العذاب.
كما أنّ الآية اعتبرت مناط دخول النار متابعة ابليس، مع انّ المناط هو عصيان الربّ لا متابعة ابليس، و