الْحَمْدُ للّه الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
السورة كسائر السور المكية تتعرض لاصول العقيدة الاسلامية. وتمهيدا للتأكيد على المعاد تشير الآيتان الى إمكانه، لأن إعادة الحياة تتوقف على أمرين: عموم قدرة اللّه تعالى، وعموم علمه، والآيتان تتضمنان الامرين.
الحمد للّه الذي له ما في السماوات وما في الارض... اي ان الحمد مهما كان، ومن اي أحد، ولأي أحد، فهو للّه تعالى. والحمد هو الثناء على الجميل الاختياري.
وكل من يُحمد بأي محمدة فهو وما له من صفات وما يصدر منه من الافعال التي يستحق عليها الحمد ملك للّه تعالى، ومستند اليه، فان له ما في السماوات وما في الارض.
وليست هذه الملكية ملكية اعتبارية من قبيل ما نعتبره بالنسبة لاموالنا حفاظا على شؤوننا الاجتماعية، بل هي ملكية واقعية اساسها تقوّم كل شيء في كيانه ووجوده بارادته تعالى وقدرته.
وما في السماوات وما في الارض عبارة عن كل الكون، بناءا على ان المراد بالارض هنا كل العوالم الطبيعية، وبالسماوات كل ما وراء الطبيعة، بل حتى لو لم نقل ذلك فان هذا التعبير لا يبعد أن يكون كناية عن كل الكون، ومصحح هذه الكناية هو أن الانسان اذا فتح عينه لا يجد أمامه من الكون الا السماء والارض.
وحيث ان الكون سيتبدل الى كون آخر من سماواته وارضه كما قال تعالى:(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ..) ابراهيم: 48، اضاف اليه قوله (وله الحمد في الآخرة).
وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير... قد أغرب جمع من المفسرين في تفسير هذه الجملة، فذكروا وجوها لتاويل الحمد في الآخرة، وذلك لان الحمد في الدنيا واجب له تعالى، وفي الاخرة ليس واجبا، اذ لا تكليف هناك.
وكأنهم توهموا ان المراد بالحمد في الموضعين ما يصدر من الناس من حمد وثناء، مع ان المراد ان الحمد في حد ذاته يختص به تعالى، اين ما كان، ومتى كان، ومن اي احد، وفي اي مرحلة من مراحل الكون، وفي اي عالم من العوالم، فلا حاجة الى تاويل.
مع أن أهل الجنة ايضا يحمدون اللّه تعالى كما قال عنهم: (وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ) يونس: 10، وقال تعالى عن حمد الملائكة يوم القيامة: (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ للّه رَبِّ الْعَالَمِينَ) الزمر: 75.
وذكر الحمد في الآخرة تمهيد لما سياتي من الكلام حول المعاد والحياة الآخرة.
ولعل توصيفه بالحكيم ايضا تمهيد له باعتبار أن حكمته تعالى تقتضي أن يكون هناك عالم آخر يحاسب فيه الاعمال والا لكان خلق هذه النشأة عبثا ومنافيا للحكمة، قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) المؤمنون: 115.
والتوصيف بالخبير تمهيد لبيان قدرته على اعادة الانسان مهما تكاثر عدده وتشتتت اجزاؤه، فإن الخبير مأخوذ من الخبرة، اي العلم بدقائق الامور وجزئياتها وتفاصيلها وخباياها.
يعلم ما يلج في الارض وما يخرج منها... لا شك أن كثيرا من الاجسام الموجودة على ظاهر الارض تتحول بمرور الزمان الى ان يتم امتصاص الارض لها وتتغير هناك، وتتحلل، وتخرج منها بصورة جسم آخر.
وهذا هو المراد بالولوج والخروج من الارض، فهذه عملية مستمرة لتجديد الحياة على هذا الكوكب، كما تدخل فيها المعادن لتحتفظ بخصائصها طيلة القرون، ويدخل فيها الماء ويخرج مصفى وغير ذلك .
ولعل هذه الجملة تفصيل مفاد الوصف الثاني اي الخبير، وهو في نفس الوقت بيان لعموم علمه تعالى بما يتوقف عليه ايجاد النشأة الآخرة.
والتعبير في هذه الجملة جامع لجميع الجزئيات الموجودة على كوكب الارض، مع ملاحظة التغير والتحول الطارئ عليها بتشتت الاجزاء، وامتصاص الارض لها، ثم تحولها في باطنها الى مواد اخرى، او تغير حالتها وخروجها منها، فهو يعلم بها حين الولوج، وحين الخروج وقد تغيرت ماهيتها، وتبدلت صورتها.
وهذا العلم هو اساس ما يتوقف عليه احياء الموتى وبه يدفع اشكال المنكرين انه كيف يمكن اعادة الانسان وقد تفرّقّت اجزاؤه ومزّق كل ممزّق ــ كما في هذه السورة ــ وضلّ في الارض كما حكاه تعالى عنهم في قوله: (وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) السجدة: 10 ؟!
والحاصل ان ظاهر التعبير هنا وتخصيص العلم بما يلج وما يخرج لدفع هذا التوهم، لا لمجرد بيان كمّ هائل من المعلومات بعبارة مختصرة، كما في بعض التفاسير حيث قال: (إن التعبير يشمل كل انسان وحيوان يموت، وكل نبت وكل مادة تدفن في الارض، وكل ما يدخل فيها من سوائل واشعة وفضولات، وما يخرج منها من نبت وانسان وحيوان، فكل هذه الامور تنطبق عليها العبارة) واعتبر ذلك من معجزات التعابير القرانية!! مع ان ذكر عنوان عام يشمل كمّا هائلا من الموجودات ليس من الاعجاز في شيء.
وما ينزل من السماء وما يعرج فيها... قيل هنا ايضا بانه عنوان يشمل مجموعة اخرى من حقائق الكون فان منها ما تنزل من العلو كالمطر والاشعة، ومنها ما تصعد كالابخرة.
ولكن الظاهر انه اشارة الى علمه تعالى بما ينزل من السماء من احكام، وما يعرج اليها من اعمال. وهكذا يتم العلم الذي لا بد منه لانشاء تلك المحكمة الكبرى.
وهو الرحيم الغفور... لعل التعقيب بالوصفين ايضا يناسب المعنى المذكور آنفا، باعتبار ان علمه تعالى بتفاصيل الاعمال وبكل صغيرة وكبيرة منها يشتمل على نوع من التهديد، فاراد سبحانه تلطيف الجو وبعث الرجاء في النفوس بالتركيز على صفتي الغفران والرحمة.