مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ في‏ مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْ‏ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَليلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازي إِلاَّ الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتي‏ بارَكْنا فيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فيهَا السَّيْرَ سيرُوا فيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحاديثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ في‏ ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)

 

لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال... ذكر قصة سبأ بعد قصة سليمان عليه السلام يأتي في سياق بيان آثار الشكر والكفران، فبينما كان آل داود من الشاكرين لربهم، كان هناك قوم غير بعيدين عنهم لم يشكروا ربهم بل طغوا وكفروا، فيذكر قصتهم ليعتبر المعتبرون.

واختلف في سبأ انه اسم لرجل او لقوم او لبلد. ولا يبعد اطلاقه على كل ذلك.

وفي رواية عن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه رجل من العرب ولد عشرة. تيامن منهم ستة وتشاءم أربعة، فأما الذين تيامنوا فالازد وكندة ومذحج والاشعرون وأنمار وحمير... واما الذين تشاءموا فعاملة وجذام ولخم وغسان.

فعلى فرض صحة الحديث ــ وهو بعيد ــ يكون سبأ أبا لقبائل عربية بعضهم في اليمن وبعضهم في الشام، وبالطبع ينتقل الاسم الى القبيلة ثم الى البلد.

والظاهر ان المنقول هنا من قصتهم حدث بعد إسلام ملكة سبأ على يد سليمان عليه السلام، ولعله يكون متاخرا جدا حيث إن الظاهر انتشار الاسلام فيهم على يد الملكة. وبعد دهر من الزمان تحولوا الى الكفر نتيجة للبطر والتنعم وعدم الشكر كما هو الغالب في الاقوام.

وهذا هو الهدف الاساس من التذكير بحالهم ليعتبر الاقوام المتنعمة من البشر، ويعلموا أن النعمة اذا لم يقم الانسان بواجبه تجاهها فستكون بنفسها نقمة عليه، فانها توجب في الاجيال المتأخرة التي لم تذق الفقر ولم تتعب في سبيل انشاء الحضارة ترهلا وكسلا يجرانها في النهاية الى الضعف ثم الدمار.

وقوم سبأ كانوا يعيشون في جنوب اليمن. ويقال إن آثار الخصب باقية حتى الآن. ولكن الآية تذكّر بنعمة عظيمة منّ اللّه بها عليهم نتيجة لبناء السدّ المعروف بسدّ مأرب، ويعتبر ذلك من رموز الحضارة البشرية القديمة، ولكنه على كل حال من نعم اللّه تعالى عليهم، فالحضارات وان صنعتها أيدي البشر نعمة من اللّه تعالى، وكل شيء فيها من العناصر الطبيعية من اللّه تعالى، وحتى العقل البشري الخلّاق، والقدرة البشرية، وغير ذلك كلها من نعم اللّه تعالى، فلا يغرّن الناس تقدمهم وتمدنهم، ولا يكن ذلك مدعاة لنسيان المنعم.      

والظاهر أن المراد بالجنتين إحاطة الجنان بالبلد يمينا وشمالا، لا خصوص الجنتين بالعدد. والمراد بالمسكن البلد.

ويحتمل ان يكون المراد بالآية في الآية الكريمة ما أنعم اللّه به عليهم من بناء السد العظيم الذي منعوا به مياه السيول الغزيرة الهدّامة، وجعلوا له منافذ فانشئت به الجنان عن يمين البلد وشماله، وبذلك تحولت النقمة الى نعمة. وربما يكون هذا هو ظاهر الآية الكريمة، بلحاظ أن قوله تعالى (جنتان) بدل عن قوله (آية).

ويحتمل أن لا يكون المراد بالآية الجنتين، بل ما تعقّب ذلك من دمار وخراب نتيجة كفرهم واعراضهم. والسبب في هذا العدول عن ظاهر الآية أن وجود جنتين لا تعدّ آية فهناك في سائر البلاد جنان كثيرة.

بل يمكن ان لا يكون في ذلك مخالفة للظاهر باعتبار أن الآية تحققت في مجموع ما حدث لهم من حدوث الجنتين ثم زوالهما. والآية: العلامة فكما أن الجنان علامات على رحمته تعالى كذلك ابدالها بما لا ينفعهم علامة على قدرته وحكمته وعزته وحسن تدبيره في تربية الانسان وسوقه الى الكمال.

ولا ينافي ذلك ما هو الظاهر البدوي من الآية الكريمة حيث جعل الجنتين فيها بدلا عن قوله (آية) فانه من قبيل قوله تعالى (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ...) الكهف: 45، فان التمثيل ــ كما يبدو ابتداءا ــ انما هو بنفس الماء، مع أن الحياة الدنيا لا يشبه الماء، وليس هو المقصود، بل التمثيل انما هو بمجموع ما ذكر.     

كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور... الظاهر أن هذا ليس خطابا لفظيا اوحي الى نبي لهم، وان لم يستبعد وجود نبي بينهم كما قيل، بل المراد ــ واللّه العالم ــ أنهم مخاطبون بذلك حسب الخطابات العامة للبشر، فهو تطبيق للخطابات العامة، كما يمكن تحققه في زماننا هذا ايضا فهذا مما يخاطب به كل من أنعم اللّه عليه.

وقوله (بلدة طيبة) بيان للنعمة، فالبلد طيّب بترابه ومائه وهوائه وثمراته، وكل مستلزمات الحياة البشرية، والرب يغفر لكم قصوركم وتقصيركم. ولولا مغفرته لم ينعم عليكم بذلك.

وهذا يدلنا على حقيقة قرآنية مهمة وهي أن كل ما يصيبنا فهو من نتائج أعمالنا ويعفو اللّه عن كثير، قال تعالى (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) الشورى: 30، فاذا انعم علينا فربما يكون لمغفرته وعفوه.

ولكن ليست كل نعمة كذلك فربما يكون الانعام للاستدراج. والفارق والعلامة ــ كما في الحديث [1] ــ أن الانسان اذا وفّق للحمد والشكر لم يكن استدراجا، ولذلك يأمرهم اللّه تعالى بالشكر لتبقى المغفرة، والا فيمكن ان تتبدل النعمة عذابا، ويمكن أن تتبدل استدراجا، فلا يغرنّ الانسان استمرار النعم وليكن دائما على حذر.

فاعرضوا فارسلنا عليهم سيل العرم... اي اعرضوا عن ذكر ربهم وشكر نعمه. والشكر كما مر في قصة آل داود ينبغي أن يكون بالعمل ليكون الانسان شكورا مبالغا في الشكر. وأما قوم سبأ فأعرضوا ولم يشكروا بل كفروا بنعمة اللّه قولا وعملا، فسلبهم اللّه نعمته، وأرسل عليهم سيل العرم.

واختلف في معنى كلمة العرم، هل هو السدّ بنفسه، او الحجارة، او الجرذ؟ فالاول بمعنى أنّ السيل جاءهم من نفس السدّ بعد انهدامه وهو بالطبع سيل عظيم جدا، والثاني بمعنى أن الامطار الغزيرة استنزلت الحجارة فانهد السدّ، والثالث بمعنى أن اللّه تعالى سلط جرذانا على السدّ ففتحوا طريق الماء. وهذا أشبه بالاساطير.

وفي معجم مقاييس اللغة: ( العرم أصلٌ صحيح واحد، يدلُّ على شِدّة وحِدّة) وقال (وأمَّا سَيل العَرِم فيقال: العَرِمَةُ: السِّكْر، وجمعها عَرِم. وهذا صحيح، لأنَّ الماء إذا سُكِرَ كان له عُرَامٌ من كثرته) والسِّكر هو السدّ.

فالمعنى أن اللّه تعالى أرسل عليهم السيل من السدّ، والتقييد به لبيان أن السيل لم يكن بفعل الامطار الغزيرة، بل بماء السد نفسه. والغرض أن اللّه تعالى بدل نعمتهم بالذات نقمة عليهم، واصبح السد الذي يمنعهم من السيول مثارا لسيل عظيم.

وقيل: العرم بمعنى الصعب الشديد، فيكون من اضافة الموصوف الى الصفة.

وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي اكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل... جرف السيل تلك الجنان التي غيّرت مجرى حياتهم، وتبدلت الاراضي الخصبة الى صحراء قاحلة ليس فيها الا بعض الاشجار البرية. والتعبير يوحي بفقر شديد ابدلوا به. وتسمية الاشجار البرية جنتين من باب التهكم والمقابلة.

قيل: ان المراد بالخمط نوع من شجر الأَراكِ له حَمْل يؤْكل. والاصل في معناه الملاسة فيطلق على كل ما لا شوك له. وقيل غير ذلك.

ولكن الظاهر أنه يطلق ايضا على كل ثمر مرّ او حامض شديد الحموضة وهو هنا بهذا المعنى لأن الكلمة جاءت وصفا للأكل. والاُكُل: المأكول. واُكُل الشجر ثمرها. نعم اذا قرئت بالاضافة (اُكُلِ خمط) فهو بمعنى الشجر المذكور.

والأثل شجر غير مثمر يستفاد من خشبه.

والسدر معروف، وهو شجر مفيد باغصانه واوراقه وثمره وظله، ولكنه ليس كاشجار الفواكه الاخرى، مضافا الى انه ايضا لم يكن متوفرا بل بقي لهم منه شيء قليل. وقوله تعالى (قليل) صفة لشيء اي شيء قليل من السدر.

ذلك جزيناهم بما كفروا... ذلك اشارة الى تبديل الجنان المحدقة بيمين البلد وشماله الى ما يشبه جنتين لا تشتملان على شجر مفيد الا قليلا. فهذا التبديل كان جزاء كفرانهم للنعم الالهية. و(ما) مصدرية اي بكفرهم.

وهل نجازي الا الكفور... استفهام انكاري، اي لا نجازي الا الكفور.

قيل: ان المجازاة لا يعبّر بها الا في مورد العذاب، ولكن الظاهر هو العموم وانما يستفاد من القرائن أن المراد بالمجازاة هنا العقاب اي هل نجازي بالعذاب في الدنيا الا الكفور. والكفور صيغة المبالغة، فلعلّه من جهة أنهم تركوا الشكر العملي والقولي فانكروا أن تكون النعم من اللّه تعالى وأفسدوا في الارض ايضا.

وربما يستغرب الحصر مع أن العذاب في الدنيا يشمل المؤمن ايضا كما قال تعالى: (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْديكُمْ..) الشورى: 30، ولكن الظاهر أن ذلك ليس من المجازاة والعقاب، وانما هو نتيجة طبيعية لبعض الاعمال. والكفور ربما يشمل المؤمن ايضا فان المراد به كفران النعم، فالمراد بالآية أنه تعالى لا يعاقب في الدنيا الا من كان مبالغا في الكفران.

وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة... الظاهر أن هذا بيان لنوع آخر من كفران النعمة، فالمذكور في الآيات السابقة انهم لم يشكروا ربهم واعرضوا عن ذكره، ولعله من جهة أنهم اعتبروا كل ذلك نتيجة لتعبهم، وتقدمهم في الحضارة البشرية، شأنهم شأن غيرهم من اصحاب الحضارات المتقدمة، فهذا في الواقع نكران للمنعم. والمذكور هنا عدم اعترافهم بالنعمة، واعتبارهم النعمة امرا يوجب السأم والملالة.

والنعمة هنا من اهم النعم وهي الامان ولكن الانسان يغفل عنه الا بعد ان يفقده. والمراد بجعل القرى توفيق الاسباب وتهيئتها بحيث تحققت تلك القرى بفعل الناس، بل لا مانع من اسناد فعل الناس اليه تعالى ايضا.

واختلفوا في المراد بالقرى التي بورك فيها، فقيل: هي بلاد الشام بقرينة قوله تعالى (باركنا فيها) الظاهر في أن المراد بها بيت المقدس وما حولها، وهي الارض المقدسة والمباركة. وقيل: المراد مكة ونواحيها. وقيل: صنعاء وما حولها من القرى. وقيل غير ذلك.

وربما يستظهر الاول بقرينة سائر الموارد التي يعبر فيها بالبركة، الا أن المسافة بين جنوب اليمن وهو موضع سبأ الى بلاد الشام طويلة جدا يبعد كونها مليئة بالقرى الظاهرة المتلاصقة بحيث يسير بينها الناس ليلا ونهارا، خصوصا بملاحظة قلة عدد النفوس في تلك الازمنة، فلعل المراد بالقرى التي بارك الله فيها منطقة اخرى مباركة، بمعنى انها كثيرة الخيرات فكان قوم سبأ ينتفعون بالمبادلات التجارية معها.

واختلفوا ايضا في المراد بالظاهرة، هل هي المتقاربة بحيث تظهر الاخرى حين خروجك من احداها، او انها على مرتفع من الارض فهي ظاهرة من بعد، او غير ذلك؟ والظاهر هو الاول بقرينة أن المراد بيان كون السير بينها آمنا.

وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين... لعل المراد بالتقدير التضييق، بمعنى تقليل المسافة، وهو بذاته موجب لأمن الطريق. ويمكن ان يكون المراد التقدير بمعنى القضاء اي قدرنا استمرار حركة السير بينها مما يوجب استتباب الامن في الطريق.

والامر بعده (سيروا..) كالامر في كلوا من رزق ربكم ليس خطابا موجها كما ربما يتوهم، بل المراد بيان انه كان بمقدورهم ان يسيروا فيها ليالي واياما آمنين، فهذا خطاب فرضي ومجرد تعبير عن تلك الحالة.

والمراد بالسير في الليالي والايام انه لا يختلف الامر، فكما كان يمكنهم السير في النهار آمنين كذلك كان السير ليلا ايضا، وهذا غاية في الامان وخصوصا في ذلك العهد ولكنهم استخفوا بهذا الامر وطلبوا من اللّه تعالى ان يباعد بين اسفارهم.

وقالوا ربنا باعد بين اسفارنا... لاشك ان هذا دعاء ينمّ عن حمق وغباء، ولذلك نجد المفسرين يحاولون ان يجدوا وجها وسببا لذلك، فقال بعضهم انهم طلبوا تطويل المسافة في الاسفار لكي لا يتمكن الفقراء من السفر ويختص ذلك بالاغنياء.

وهذا بعيد جدا في نفسه مضافا الى انه لو كان كذلك لكان تعييرهم بنفس هذه النية الخبيثة باعتباره ظلما للفقراء لا لأنهم ظلموا انفسهم وطلبوا سلب النعمة.

وقيل: انهم ملوا العافية وطيب العيش لبطرهم وغاية تنعمهم كما طلبت بنو اسرائيل البصل والعدس بدلا عن المن والسلوى.

وهذا لا يبعد في حد ذاته الا ان تشبيههم ببني اسرائيل ليس على ما ينبغي، فان بني اسرائيل كان المطلوب منهم ان يصبروا على الطعام الواحد ليتمكنوا من الاستمرار في مواجهة الاعداء فكان ذلك جزءا من جهادهم، ولذلك ورد التعبير حكاية عنهم: (لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ..) البقرة: 61، فالمفروض عليهم هو الصبر، وان كان اطعامهم بالمن والسلوى نعمة قيّمة منّ اللّه بها عليهم الا ان الانسان يملّ من تكرار الطعام بالطبع.

ولعل جواب موسى عليه السلام (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) البقرة: 61، لا يقصد به نوع الطعام، بل المراد بالخير العزة والاستقلال وتأسيس حضارة دينية كتبها اللّه تعالى لهم.

والظاهر كما ذكرنا أن قوم سبأ استخفوا بنعمة الامان ولم يهتموا بها فلم يعتبروها نعمة وطلبوا أن تكون اسفارهم متباعدة فاقدة للامان. وهكذا الانسان يستخف بالنعمة اذا احيط بها. ولا يجب ان يكون هذا الدعاء قولا صادرا منهم، فلعل هذه العبارة تحكي الحالة النفسية لهم اذ يبعد جدا ان يدعو أحد ربه بهذا الدعاء.

والتعبير يوحي بان هذا الكفران لم يكن على اساس انكار المنعم، بل مع الاعتراف به. ويفهم ذلك من قول (ربنا) اذ لا قرينة على كونه استهزاءا فالكفران هنا على اساس انكار كون النعمة نعمة، وكم هناك من نعم يغفل عنها الانسان حتى اذا فقدها تنبّه وأنّى له الذكرى؟!

وظلموا انفسهم فجعلناهم أحاديث ومزّقناهم كل ممزّق... في الميزان انهم ظلموا انفسهم بالمعاصي، ولكن الظاهر انه عطف تفسير على هذا الدعاء، فهم بذلك ظلموا انفسهم حيث طالبوا بازالة النعمة عنهم. وعاقبهم اللّه تعالى فجعلهم احاديث وهي جمع احدوثة اي ما يتحدث به، بمعنى انه أهلكهم او فرق جمعهم فلم يبق من تلك الحضارة المتقدمة الا ما يتحدث به الناس.

ولعل العقوبة كانت بصورة طبيعية بمعنى أن السيل لما جرف جناتهم تفرقوا في البلاد فبادت تلك الحضارة المزدهرة. ومن هنا نشأ المثل العربي (تفرقوا أيادي سبا) اي كأيادي سبأ.

والممزق مصدر ميمي اي مزقناهم كل تمزيق. وهو تعبير آكد للتفرق.

ان في ذلك لآيات لكل صبار شكور... الصبار والشكور من صيغ المبالغة، فالمراد من هو كثير الصبر على البلاء وكثير الشكر على النعم. ولعل وجه التقييد بالوصفين ان من يعيش الضيق والفقر وانواع البلاء، ولكنه يصبر على ذلك ويشكر على ما اوتي من نعمة قليلة هو الذي يعتبر بهذه الحوادث، ويظهر له بوضوح ان ليس كل ما يتنعم به الانسان نعمة واقعية، فلعله استدراج يجره الى البلاء العظيم.



[1] الكافي ج2 ص 97