مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)

 

وما ارسلناك الا كافّة للناس بشيرا ونذيرا... المشهور في معنى الآية أنها لبيان عموم رسالته صلى اللّه عليه وآله وسلم باعتبار أن (كافّة) حال من الناس بمعنى (جميعا). وكافّة مأخوذ من الكفّ بمعنى المنع. وانما اطلق على هذا المعنى بلحاظ أن الحكم يشمل الجميع لا يشذّ منهم أحد فكأنّ هناك ما يمنع من سقوط أحد منهم.

ويقال بأن هذا المعنى ورد في روايات كثيرة، ولكنا لم نجد في رواياتنا الا رواية ضعيفة جدا سندا ومتنا، نعم هناك روايات كثيرة تدل على أصل عمومية الرسالة من دون التعرض لتفسير الآية الكريمة.

وهناك بعض المناقشات الادبية في هذا التفسير، وقد أجيب عنها، كالقول بأن (كافة) حال تقدم على ذي الحال المجرور، وهو غير صحيح عند النحاة، وبأن اللام لا تستعمل بمعنى (الى).

ولكن أقوى ما يرد على هذا التفسير هو الحصر المستفاد من النفي والاستثناء اذ لا يظهر وجه لهذا الحصر، ولو اريد بيان عموم الرسالة لاكتفى بالاثبات، اي وارسلناك للناس كافة.

ولم أجد من القوم توجيها لذلك الا تأويله بأن المستثنى مقدر وهو ما ارسلناك لشيء من الاشياء الا للناس كافة.

ولا أظن أن هذا مما يحمل عليه أفصح الكلام، كما أنه لا يظهر وجه واضح لتعقيب هذه الجملة بان اكثر الناس لا يعلمون. ومن الغريب بعد ذلك ما يدعى من أن هذا المعنى هو المتبادر من الآية. 

والظاهر من الآيات انها تردّ على توقع الناس ان يكون الرسول عالما بموعد القيامة او بموعد عذاب الاستئصال، كما هو وارد في موارد عديدة من الكتاب العزيز كقوله تعالى: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) الاحقاف : 9.

والكف هو المنع، والتاء للمبالغة، فالمعنى انا ما ارسلناك الا كافة ومانعا للناس عن التجاوز والعدوان، فان الدين وازع قوي عن الانحلال الخلقي والمفاسد الاجتماعية والظلم والعدوان.

والرسول دوره دور تبليغ الدين وتحكيمه في المجتمع، وقوله (بشيرا ونذيرا) يفسر طريقة كفه ومنعه، فهو لا يمنع بقوة قاهرة وانما يمنع بالتبشير والانذار.

ولكن اكثر الناس لا يعلمون... اي لا يعلمون دور الرسول في توجيه المجتمع، وانه بشير ونذير فحسب، لا يُبلّغ الا ما حُمّل فيسألونه عن موعد يوم القيامة او عن موعد نزول العذاب، ويقولون متى هذا الوعد ان كنتم صادقين.

ويقولون متى هذا الوعد ان كنتم صادقين... وردت هذه الجملة في خمس مواضع من الكتاب العزيز. والظاهر في سائر الموارد هو الاشارة الى ما كان المؤمنون يتوعدونهم به تبعا للوحي من نزول العذاب الدنيوي، او ما يشمل وصول موعد انهدام هذا الكون اي النفخة الاولى.

قال تعالى: (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّه شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ * وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللّه لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ * أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آَمَنْتُمْ بِهِ آَلْآَنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُون) يونس :46-51 فيظهر بوضوح في هذا المورد بملاحظة الآيات السابقة واللاحقة ان المراد بالمشار اليه في هذه الجملة العذاب في الدنيا.

وقال تعالى (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ * بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ * وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) الانبياء :37-41 والاية التالية لهذه الجملة وان كانت ظاهرة في عذاب جهنم الا ان ما قبلها وما بعد هذه الاية لا ترتبط الا بعذاب الدنيا.

وهكذا الكلام في سورة النمل حيث عقبها بقوله تعالى (قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) النمل: 72.

نعم ما ورد في سورة يس ظاهر في يوم الانهدام حيث جاء بعدها (مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) يس: 49 ــ 50، وان كان يحتمل ايضا عذاب الاستئصال، الا ان قوله تعالى بعد ذلك (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) يقوي الاحتمال الاول. وما في سورة الملك ايضا ظاهر في عذاب الدنيا اذا تاملت في ما بعدها من الآيات .

وما هنا ايضا اقرب الى احتمال عذاب الاستئصال او ما يوجب زوال الامة وان كان تدريجيا، فان هذا هو الظاهر من جعل الميعاد لهم بحيث لا يستقدمون عنه ولا يستاخرون، نظير ما مر في سورة يونس، فالمراد آجال الامم لا يوم القيامة كما ورد في التفاسير.

ثم ان التعبير بفعل المضارع يدل على ان هذه مقالتهم المستمرة وليس قولا في ظرف خاص.

قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون... الميعاد اسم زمان اضيف الى اليوم اضافة بيانية، اي لكم موعد وهو يوم... ويمكن ان يكون مصدرا اي وعد يوم.

و(لا تستأخرون..) صفة ليوم وباب الاستفعال هنا للمبالغة كما قيل اي لا تتأخرون عنه ولا تتقدمون مؤكدا. ويمكن أن يكون بمعنى الطلب كما هو الاصل في باب الاستفعال اي لا تطلبون تأخرا عنه ولا تقدما عليه، مع أنهم لو علموا به لطلبوا تأخره الا أن عدم الطلب كناية عن عدم الامكان اذ لا يطلب الانسان أمرا مستحيلا.

والساعة الجزء من الزمان والمراد بها هنا أقل جزء منه.

وقد وقع الكلام في المراد بهذااليوم. وعامة المفسرين يفسرونه بيوم القيامة.

ويبعّده كما أشرنا اليه ان عدم تقدمه وتأخره بالنسبة لهم يدل على كونه أمرا خاصّا بهم، ويؤكد ذلك تقديم قوله (لكم) مما يدل بوضوح على أنه موعد خاص بهم، ولا ينطبق على يوم القيامة.

ويبعد جدا أن يكون المراد يوم موت كل واحد منهم فلا بد من حمله على يوم نزول العذاب في الدنيا، او موعد زوال الامة وفناء المجتمع ولو تدريجا.

ويؤيد ذلك قوله تعالى في سورة يونس كما مر آنفا (لكل امة أجل اذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون).

وفي الآية مورد لسؤال وهو أنه كيف يكون ما ذكر جوابا لسؤالهم عن موعد العذاب ولم يحدد في الجواب موعدا؟

والجواب عنه بوجهين:

الاول أن السؤال ليس استفهاما حقيقيا بل هو استهزاء، حيث انهم ما كانوا يعترفون بصدق الوعد فيسألون عن موعده واقعا. وحيث كان السؤال استهزاءا ناسبهم الجواب بالتهديد.

والثاني أن الجواب يذكرهم بحقيقة مهمة، وهي أنه لا فائدة في معرفة الوقت وانما المهم أنه موعد حتمي لا يتأخر ولا يتقدم.