وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
وقال الذين كفروا لا تاتينا الساعة قل بلى وربي لتاتينكم عالم الغيب... الظاهر أن عنوان (الذين كفروا) مصطلح قرآني يراد به مشركو مكة. وكانت عرب الجزيرة بوجه عام تنكر المعاد مع اعترافهم باللّه تعالى وبكونه خالق الكون، لان الاعتراف بالمعاد يستدعي التقوى، وكانوا يأبون ذلك.
ويختلف معنى الساعة حسب اختلاف الموارد في القرآن فقد يقصد بها لحظة انتهاء الكون وقد يقصد يوم القيامة. وهي في الاصل بمعنى الجزء الصغير من الزمان، ولعلها تطلق على ذلك اليوم لتحققه بسرعة خاطفة، كما قال تعالى (وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) القمر: 50. والمراد بها هنا يوم القيامة والبعث فانه هو الذي ينكره المشركون.
وفي جواب انكارهم امر اللّه تعالى رسوله بان يقول لهم: (بلى وربي لتاتينّكم).
وكلمة (بلى) تقال تارة في جواب سؤال منفي فيكون الجواب مثبتا لذلك المورد كقوله تعالى (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) الاعراف: 172، فهذا الجواب يثبت الربوبية التي ورد السؤال عن نفيها.
وتقال تارة اخرى لاثبات ما انكر كما في هذه الآية حيث تثبت المعاد بعد الجحود المنقول من الذين كفروا.
والحلف بالرب لتناسب الربوبية مع المعاد، اذ مقتضى ربوبيته تعالى أن يوصل الانسان المربّى الى نتيجة اعماله.
والتوصيف بانه عالم الغيب وما تلاه من تأكيد، لردّ شبهة المشركين في انكارهم للمعاد، فانهم كانوا يستغربون ذلك من جهة ان الانسان بعد موته تتفرق اجزاؤه فلا يمكن جمعها.
والجواب واضح فان الاجزاء المتفرقة تعتبر من الغيب، واللّه تعالى يعلم الغيب. والمراد به ما هو غائب عن أعين الناس ولا سبيل لمشاهدته في الطبيعة، والا فليس هناك أمر غائب عن اللّه تعالى.
لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السماوات ولا في الارض... اي لا يبعد ولا يغيب عنه مثقال ذرة، فكل شيء حاضر عنده. وعلم اللّه بالاشياء ليس بالتصور كما عندنا بل كل شيء حاضر بكل خباياه وزواياه عنده، وهو محيط به.
والمثقال من الثقل بمعنى الوزن. والذرة تطلق على النمل الصغير، وعلى الهباء المنثور الذي يرى في ضوء الشمس حين تدخل من نافذة صغيرة.
والغرض التأكيد على احاطته تعالى بكل شيء، وأن الاشياء حاضرة عنده لا تغيب عنه فهو يعلم وزن الذرة على صغر حجمها بحيث لا تكاد ترى.
ولا اصغر من ذلك ولا أكبر الا في كتاب مبين... جملة مستقلة. والكتاب بمعنى المكتوب اي المجموع. وكل مجموعة من المعلومات كتاب.
والمبين بمعنى الواضح او بمعنى الموضح، فيمكن ان يكون الكتاب كناية عن علمه تعالى، ويمكن ان يكون اشارة الى نفس الحقائق الكونية، فانها الكتاب التكويني التي تشكل احرفه مجموعة الحقائق بنفسها وهي واضحة وموضحة لانها تريك نفس الحقائق لا صورها ولا اسماءها ولكن لا يطلع عليها بكاملها الا اللّه تعالى.
ويوم القيامة تظهر لكل انسان حقائق اعماله بعينها، فيقول ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا احصاها.
ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات اولئك لهم مغفرة ورزق كريم... بيان لحكمة انشاء النشأة الآخرة، وعلتها الغائية، وهي ان يلقى الانسان نتيجة عمله، فالذين آمنوا باللّه وبرسله وكتبه وشريعته، وعملوا الصالحات اي الاعمال التي تصلح لأن تدخل صاحبها في رضوان اللّه، يرون منه تعالى مغفرة لذنوبهم التي لا يخلو منها انسان الا من عصمه اللّه تعالى.
والمغفرة الستر، اي يستر ذنوبهم وعيوبهم ونقائصهم. ولا بد من المغفرة حتى يستحق الانسان الرزق الكريم، وهو الجنة.
والكريم كل شيء قيم كما يقال الاحجار الكريمة اي الثمينة.
والذين سعوا في آياتنا معاجزين اولئك لهم عذاب من رجز اليم... السعي هو الركض او المشي السريع. والمعاجزة محاولة التعجيز، او محاولة اظهار عجز الآخر، فالمراد انهم يبذلون جهدهم لاظهار عجز اللّه تعالى في آياته. وهو كناية عن مبالغتهم في انكار الآيات، ودلالتها على الحكمة والقدرة.
والرجز هو الرجس والقذارة، او الاضطراب وعدم الاستقرار.
وكلاهما يناسب جريمتهم فالقذارة تناسب تكبرهم واستعلاءهم على الحق، فيجزون بها احتقارا لهم. والاضطراب تناسب سرعة مشيهم في معاجزة اللّه تعالى. وهو في نفس الوقت اليم، وهو مبالغة في الايلام، اي مؤلم لا يتحمل المه.
ويرى الذين اوتوا العلم الذي انزل اليك من ربك هو الحق... يرى مأخوذ من الرأي بمعنى العلم والاذعان. والذين اوتوا العلم لا يخص علماء اهل الكتاب، كما يقوله بعض المفسرين، اذ لا دليل على التخصيص، فالمراد ان هذه حقيقة علمية يسلم له كل من آتاه اللّه نصيبا من العلم.
ولعل الغرض الاشارة الى ان من لا يرى ذلك ولا يعتقده فهو جاهل. والمراد بالذي انزل، القرآن الكريم. والظاهر أن هذه الجملة في مقابل قول الذين كفروا لا تأتينا الساعة، فهم جهلة لم يؤتوا نصيبا من العلم.
وحيث كانت الآية في ضمن الاجابة على انكار المعاد، فهي تجعل مقابلة بين الايمان بالقرآن، وبين انكار المعاد، في اشارة الى ان المعاد حقيقة لا يوصل اليها الا عن طريق الوحي، فانه من الغيب الذي لا يصل اليه البشر بنفسه. وقوله تعالى (هو الحق) يدل على انحصار الحق فيه، حيث أتى بالضمير والخبر المعرفة، فكل ما يقال بشان المعاد باطل، الا ما ورد عن طريق الوحي.
ويهدي الى صراط العزيز الحميد...وهو الصراط الذي لابد من سلوكه، اذا اريد الوصول الى السعادة في تلك النشأة. والتعبير بالعزيز لانه الغالب الذي لا يغلب على امره، فيتحقق ما اراده مهما كان، ولكنه في نفس الوقت حميد، لا يصدر منه الا ما يستوجب الحمد والثناء. وليست الغلبة لديه مدعاة للظلم على احد.