وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآَنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللّه وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه... المراد بالذين كفروا في مصطلح القرآن مشركو مكة والجزيرة العربية، ولا وجه لما قيل من ان المراد بهم اهل الكتاب، بل لا يصحّ ذلك لأنهم يؤمنون ببعض ما بين يديه.
وكلامهم هذا يدل على غاية تماديهم في الضلال حيث نفوا الايمان بنفي الابد بالقرآن وما قبله من كتب السماء، فمعنى ذلك انه لا يؤثر في عزمهم هذا شيء ابدا.
ومن الطبيعي ان المعاند لا يفيد معه البحث ولا النصح، فهذه الآية بمنزلة قوله تعالى خطابا لنوح عليه السلام (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ...) هود: 36، وبذلك يؤيس اللّه تعالى رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلّم من ايمانهم .
وربما يقال ان المراد بالذي بين يديه يوم القيامة. وهو تفسير غريب. والتعبير عن الكتب السماوية السابقة بالذي بين يديه متكرر في القرآن كقوله تعالى (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ) آل عمران: 3. وهو واضح.
وكأنّ الذي اوقعهم في الوهم هو استغراب ان ينفوا الايمان بالكتب السابقة ولم يكن هو المطلوب منهم. ولذلك عمد بعضهم الى توجيه آخر وهو ان المشركين سألوا أهل الكتاب عما يجدونه في كتبهم حول الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ولما أخبروهم بالبشارات الموجودة فيها أنفوا من ذلك وقالوا هذه الجملة.
وهذا في حد ذاته غير مستبعد، ولكن الآية لا تنظر الى ذلك، بل الغرض بيان كفرهم بجميع الكتب السماوية وما تشتمل عليه من معارف الهية فانهم كانوا ينكرون كل ذلك، قال تعالى : (فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ) القصص : 48.
ولو ترى اذ الظالمون موقوفون عند ربهم... وهكذا يأتي التنديد والتهديد من اللّه تعالى بعد نقل كلامهم مباشرة، ولا يذكرهم بضمير عائد اليهم كما هو المتعارف بل يصفهم بالظالمين تنبيها على أن هذا الكلام وهذا العناد ظلم منهم، وهو ظلم على أنفسهم حيث يعرضون أنفسهم لهذا الموقف المشين أمام ربهم، وظلم لمجتمعهم، وظلم مطلق لما قلنا من أن الظلم لا يجب أن يكون له مظلوم.
و(لو) للتمني اي ليتك ترى موقفهم عند ربهم حال كونهم موقوفين، اي ليسوا واقفين بأنفسهم فهم لا يملكون الحركة حينئذ. وهم يتبادلون الاعتراض والرد فيما بينهم امام ربهم الذي رباهم ليبلغوا غاية كمالهم، وقد رجعوا اليه في نهاية المطاف عاصين له، معاندين لرسالاته.
يرجع بعضهم الى بعض القول... اي كل جمع منهم يرجع بالقول الى الآخر بمعنى أنه يلقي اللوم على الآخر، أو انهم يتحاورون ويتبادلون الكلام.
يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين... هكذا يبدأ بحكاية تبادلهم للنقد والاعتراض والتقاول، وقد ورد ذلك بصور مختلفة وفي مواقف مختلفة من يوم القيامة في الكتاب العزيز. وهنا ينقل مكالمتهم حين الحساب وقبل ان يؤمر بهم الى النار.
ويصنفهم اللّه تعالى الى مستضعفين ومستكبرين، وهذه طبيعة الجوامع البشرية حيث تنقسم طبقات المجتمع بصورة طبيعية الى اناس يتطاولون على الآخرين بما اوتوا من مال او قوة او دهاء او مكانة اجتماعية، واناس لا يملكون تلك المقومات فتبخس حقوقهم ويعتدى عليهم ويساقون الى ما تهواه ميول الكبراء.
ومن الملفت تكرير التعبير بالمستكبرين والمستضعفين من دون ارجاع الضمير اليهم كما هو المتعارف، ولعل السر فيه التأكيد على العنوانين.
والمستكبرون اي الذين يطلبون لانفسهم الكبر وهم ليسوا كبراء في الواقع وليست لهم اي ميزة عن الآخرين، والطبقة الاخرى ليسوا ضعفاء في الواقع فهم لهم فهم وادراك كما للاخرين، ولهم قدرة جسمية كما للاخرين، ولكنهم يستضعفون بمعنى ان المستكبرين يطلبون لهم الضعف او يعتبرونهم ضعفاء.
وهناك (امام الرب) حيث تتبدد غيوم الجهل وتظهر كل الامور على ما هي عليه يتبين ان ليس هناك كبر وصغر، بل ربما يكون هذا المستكبر حقيرا في نفسه لا يعرفه الناس، ولو علموا منه ما لم يعلموا لم يخضعوا له. وهناك كثير من حقائق الناس تتبين يوم القيامة فيندم أبناء المجتمع مما صدر منهم تجاه هؤلاء من حسن او سوء.
وبعد تبين الحال يقول المستضعفون للمستكبرين: لولا انتم لكنا مؤمنين، فالايمان هو مقتضى الفطرة والطبيعة، والانسان بطبعه ينصاع للحق ولا يكابره، الا ان هناك اهواءا تمنع وتصد الانسان عن قبول الحق. والمستضعف يحاول ان يلقي الذنب على المستكبر وأنّ هواه هو الذي منعه.
قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد اذ جاءكم بل كنتم مجرمين... وهكذا يدافع المستكبر عن نفسه ويلقي بدوره اللوم على المستضعف: أنحن صددناكم عن الهدى... وهذا امر غريب فهم قد صدوا ومنعوا الناس عن الهدى الذي جاءهم ولكنهم هنا ينسون ما اقترفوه وينفون ذلك.
ويأتي هنا اشكال وهو أنهم كيف يكذبون أمام اللّه تعالى مع أن الحقائق بينة يوم القيامة ولا يؤذن للانسان أن يتكلم بما يريد؟!
والجواب أنهم لا يكذبون كل الكذب فهناك امر آخر في نفوس المستضعفين يدعوهم الى ترك الهدى والانصياع لدعوة المستكبرين اذ لم يكن منهم اكراه واجبار، فهم ينفون الصدّ العملي بمعنى الاكراه والاجبار باعتبار انه غير ممكن في العقيدة فانه أمر نفسي، فيردّون عليهم أنّ هناك دافع آخر يدعوكم الى الكفر وهو انكم كنتم مجرمين، فالاجرام والاثم ومتابعة الاهواء هو الذي دعاكم الى ترجيح التصفيق للمستكبرين على التعبد باوامر اللّه تعالى التي تمنعكم من كثير مما تشتهيه انفسكم.
وربما يفسر قوله تعالى (بعد اذ جاءكم) بان المراد بعد ان عزمتم على الدخول في الايمان وصحت نياتكم في اختياره. وبذلك يتفادى من الاشكال بانهم كيف يكذبون وينكرون صدهم وقد صدوهم فعلا. ولكن هذا خلاف الظاهر.
وهناك من يتفادى الاشكال بانهم فعلا يكذبون لان الكذب اصبح جزءا من طبيعتهم الثانوية فلا يستطيعون التخلي عنه حتى امام اللّه تعالى. وما ذكرناه اولى.
قال الذين استضعفوا بل مكر الليل والنهار اذ تأمروننا أن نكفر باللّه ونجعل له أندادا... فالمستضعفون لا يستسلمون لجواب المستكبرين، ويدّعون ان اكبر الاثم كان عليهم، وذلك لانهم كانوا يكررون اقاويلهم في الكفر والشرك ليلا ونهارا بحيث لا يتركون لهم مجالا للتفكير، مضافا الى استعلائهم عليهم بالامر بالكفر.
والمكر هو المحاولة للوصول الى الاهداف بطرق ملتوية فالمراد انكم كنتم تحتالون علينا ليلا و نهارا لكي نبقى على الشرك والكفر، وحيث كنتم كبراءنا ورؤساءنا فتأمروننا مستعلين علينا ولا نستطيع المقاومة والرد عليكم.
وهنا سؤال وهو انه كيف جمعت الآية بين الامر بالكفر والامر بجعل الانداد، والكفر انكار لاصل وجود الباري؟
والجواب ان الكفر باللّه يجمع بين كل انحاء الشرك، وانكار الذات المتعالية، وانكار الصفات الكمالية، واثبات صفات ينزه اللّه تعالى منها. وذلك لان الايمان باللّه هو الايمان بالذات الواجد لتلك الصفات والمنزه عن غيرها، ونحن لا نعرف اللّه الا بصفاته فالذي يقبل وجود اللّه تعالى ولكن يثبت له الجسمية مثلا كافر باللّه وانما يثبت موجودا وهميا ويدّعي انه هو الله، تعالى الله عمّا يصفون.
وأسروا الندامة لما رأوا العذاب... ربما يقال: كيف يمكن الاسرار والاخفاء في حين تبلى السرائر وتنكشف الحقائق وتتجلى الخبايا والكوامن؟
وأجاب بعضهم أن المراد به الاظهار، وقال ان الاسرار من الاضداد. وهذا بعيد، ولا حاجة اليه فان محاولة الاخفاء لا ينافي عدم الخفاء، فهم حينما يرون العذاب معدّا لهم يسرون في انفسهم الندامة عما اقترفوا، وهذا رد فعل طبيعي، ولا ينافي ان الندامة لا تخفى على الآخرين كما انها ربما لا تخفى في الدنيا ايضا فتتبين في وجنات النادم وذلك لا ينافي محاولته الاخفاء. وانما يخفون الندامة تفاديا لشماتة الاعداء.
وجعلنا الاغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون الا ما كانوا يعملون... يصل بعد تبادل الكلام دور الجزاء فتوضع الاغلال في اعناقهم. وصرح بالعنوان (الذين كفروا) دون الضمير لئلا يتوهم الاختصاص بفرقة منهم دون فرقة، ولكي يشير الى السبب، فان الاغلال نتيجة للكفر.
ثم صرح بان ذلك نفس اعمالهم يجازون بها. وهذه العبارة (هل يجزون الا ما كانوا يعملون) وان احتملت التقدير اي جزاء ما كانوا يعملون الا أن تكرار الجملة في القرآن ربما يدل على عناية خاصة، وانه ليس هناك حذف وتقدير.
فلا يبعد أن يكون الغرض بيان ان هذه الاغلال هي نفس اعمالهم تتعلق بهم، وهذا امر طبيعي جدا فان عمل الانسان متعلق به لا يفارقه حتى في هذه الحياة، فان كان له ضمير حي فانه سيؤنبه كلما تذكر عمله. وهذا هو العقاب الخالد. وفي تلك الحياة تبدو الاعمال بواقع فظاعتها وقبحها فيكون اشد على العامل وابلغ في التعذيب.