بسم الله الرحمن الرحيم
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ (4) تَنْزيلَ الْعَزيزِ الرَّحيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا في أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْديهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَريمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ آثارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ في إِمامٍ مُبينٍ (12)
سورة يس مكية بشهادة المضامين المناسبة للمجتمع المكي. وقد ورد عن طرق الخاصة والعامة في فضلها وعظم شأنها، أحاديث كثيرة ومنها توصيفها بأنها قلب القران، ولكن لم يظهر لي وجهه. وما ذكر في بعض التفاسير كروح المعاني من الوجوه، لا تطمئن إليها النفس لعدم اختصاص ما ذكر من الوجوه بمضامين هذه السورة المباركة، فالأولى أن نردّ علم ذلك الى أهله، مع أن الحديث لم يرد بطريق صحيح عندنا.
يس... كثر الكلام حول الحروف المقطّعة وذكر فيها وجوه عديدة.
منها : أنّ هذه الحروف لتنبيه السامعين وجلب إنتباههم لسماع آيات اللّه تعالى فهي مثل تصدير الكلام بـ (ألا) ونحوه من أدوات التنبيه. وربما يقال في توجيهه أن المشركين كانوا يرفعون أصواتهم باللغط والصياح لئلا يستمع احد الى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فكان البدء بهذه الحروف تسكتهم لانه لم يكن معهودا لديهم.
ولكن هذا الوجه لا يمكن أن يبرر به ذكر خصوص هذه الحروف وتكررها مع عدم التعارف باستعمالها في التنبيه، كما أنه يبقى السؤال عن وجه تخصيص هذه السور بها. مضافا الى أن التوجيه المذكور لا يصح أساسا في سورتي البقرة وآل عمران المدنيتين.
ومنها : ما ذكره بعضهم من أن ذلك اشارة الى أن القرآن الكريم متكون من نفس هذه الحروف التي يتكون منها كل كلام متعارف كالطاء والسين والميم والالف واللام ونحوها ومع ذلك فليس بامكان البشر أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. واستشهدوا على ذلك بما يرد غالبا بعد ذكر هذه الحروف من الاشارة الى القرآن الكريم كقوله تعالى في مطلع سورة القصص (طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) وكذا سورة الشعراء والنمل وغيرهما.
وهذا القول منسوب الى الامام العسكري عليه السلام كما ورد في التفسير المنسوب اليه عليه السلام ولكن لا تصح النسبة وبمراجعته يحصل القطع بعدم صحة الاسناد ورواه ايضا عنه عليه السلام الصدوق في معاني الاخبار ولكن السند ضعيف جدا لا يعبأ به.
وهذا الوجه ايضا لا يبرر ذكر خصوص هذه الحروف مع الاصرار على تكرارها في اكثر من سورة مما يستفاد منه نوع علاقة بين سورة ما او مجموعة من السور وهذه الحروف الخاصة لا مطلق حروف الهجاء. واما ما استشهد به فمنقوض بأنّ هذه الاشارة لم تأت في كثير من الموارد كهذه السورة وسورة الروم وغيرهما.
ومنها: أن هذه الحروف اسماء السور فنقول سورة يس وسورة طه ونحو ذلك.
ولكن هذه التسمية انما حدثت بعد ورود هذه الحروف وبسببها والكلام هنا في سببها ومفادها فسورة البقرة مثلا سميت بها لورود هذه الكلمة فيها ولكن لا يمكن ان يقال ان السبب في ذكرها هو التسمية.
ومنها أن هذه الحروف مما يستدل بها على أن القرآن ليس من ابداع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأنه كان أميا فكان حسب الظاهر لا يعرف أسماء الحروف فالأمي يتلفظ بالالف ولكنه لا يعلم أن اسمه ألف وهكذا سائر الحروف.
وهذا كلام سخيف فالاميون يعرفون اسماء الحروف، فإنّ أسماء الحروف ليست الا كأسماء سائر الاشياء او على الاقل يعرفه بعضهم فلا تلازم بين الامية وعدم معرفتها. مع أنه ايضا لا يبرر التركيز على خصوص هذه الحروف وتكرارها. ومضافا الى أنّ ذلك لا يدلّ الا على أنّه من صنع رجل غير أمّي، او صنع بمساعدته، ولا يدلّ على أنّ القرآن من عند اللّه تعالى، وهو المقصود.
ومنها : ما ذكره العلامة الطباطبائي رحمه الله وهو أن كل حرف من هذه الحروف اشارة الى موضوع من المواضيع التي تعالجها السورة واستشهد على ذلك بانه اذا اجتمع في مطلع سورة مجموعتان من الحروف ورد كل منهما في مطلع سورة اخرى فيلاحظ ان هذه السورة تشتمل على مواضيع السورتين بحسب النوع طبعا فمثلا سورة الاعراف المبدوة بـ (المص) تشتمل على مواضيع سورة البقرة وسورة ص وليس معنى ذلك ان كل تلك المواضيع مذكورة في هذه السورة بذلك التفصيل بل على الاجمال فلو كان الالف مثلا اشارة الى الاحكام الشرعية فلا بد ان تكون كل سورة يبدأ فيها بالالف مشتملة على بعض الاحكام.
وهذا الاحتمال ليس ببعيد في حد ذاته الا أنّه يتوقف على دراسة وبحث اعمق.
ومن الشواهد على صحة هذا الاحتمال مجموعة الطواسين اي سورة الشعراء والنمل والقصص حيث ورد في مطلع كل منها حرف الطاء وتتعرض كلها لقصة موسى عليه السلام من احدى جوانبها ويلاحظ أن في كل منها اشارة الى لقائه عليه السلام على جبل طور سيناء ووردت الاشارة اليه ايضا في سورة طه المبدوة بالطاء ايضا مما يقوي احتمال كون الطاء في كل هذه السور اشارة الى الطور ولم يرد حرف الطاء في فواتح السور الا في هذه السور الاربع كما أن الاشارة الى هذا الموضوع لم ترد في سورة اخرى الا اشارة عابرة في سورة النازعات. ولعل حرف السين فيها اشارة ايضا الى سيدنا موسى عليه السلام.
ومع ذلك يبقى السؤال عن سرّ الاتيان بها بهذا النحو مع عدم التوضيح.
وهناك وجوه اخرى بعيدة يراجع بشأنها الكتب المفصلة.
وقيل: إنّ هناك سرّا آخر في هذه الحروف يكشف عن وجه غريب من وجوه الإعجاز، وهو أنّه لو جمعت هذه الحروف في المجموعة من السور التي صدّر فيها بها كانت أكثر نسبيا منها في سائر السور، وهذا أمر لا يمكن كشفه الا بواسطة جهاز الحاسوب الآلي، فكيف بالتقيد به في الحديث طيلة ثلاث وعشرين سنة.
ولكن الحكم بثبوت هذا الامر او نفيه بحاجة الى تأمّل ودقّة، وقد شكّك في ذلك بعض الباحثين وذكر نقوضا على هذه الفكرة من الاساس.
والغريب من أمر هذه الحروف أنه لم يذكر في الاحاديث والتواريخ أنّ المناوئين استغربوا ذلك، ولم يرد استفسار مؤكد ومتابعة وبحث من قبل الصحابة، ولا إيضاح ابتداءا من قبل الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم، او الأئمة الطاهرين عليهم السلام، وكأنّ الكل كانوا متّـفقين على أنّها رموز يجب السكوت عنها، والمسلمون طيلة التاريخ لم يستغربوا امرها وانما كانوا يتلونها كما امروا به من دون اصرار على السؤال عن مغزاها.
نعم ورد بشأنها بعض الروايات واكثرها ضعيفة:
منها ما رواه الصدوق في معاني الاخبار قال: (حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني - رضي الله عنه - قال: حدثنا علي ابن إبراهيم، عن أبيه، عن يحيى بن أبي عمران، عن يونس بن عبدالرحمن، عن سعدان، عن أبي بصير، عن أبى عبدالله عليه السلام قال: " الم " هو حرف من حروف اسم الله الاعظم، المقطّع في القرآن، الذي يؤلفه النبي صلى الله عليه واله وسلم والامام فاذا دعا به أجيب). [1]
وروى بسند صحيح عن محمد بن قيس قال: (سمعت أبا جعفر عليه السلام يحدث أن حييا وأبا ياسر ابني أخطب ونفرا من يهود أهل نجران أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا له: أليس فيما تذكر فيما أنزل الله عليك " ألم" ؟ قال: بلى. قالوا: أتاك بها جبرئيل من عند الله تعالى؟ قال: نعم. قالوا: لقد بعثت أنبياء قبلك وما نعلم نبيا منهم أخبرنا مدة ملكه وما أجل أمته غيرك قال: فأقبل حيي بن أخطب على أصحابه فقال لهم: الألف واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، فعجب ممن يدخل في دين مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة! قال: ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: يا محمد هل مع هذا غيره؟ قال: نعم. قال هاته، قال: "المص" قال: هذه أثقل وأطول، الألف واحد ، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون، فهذه مائة وإحدى وستون سنة. ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فهل مع هذا غيره؟ قال: نعم . قال: هاته. قال صلى الله عليه وآله وسلم: "الر" قال: هذه أثقل وأطول، الألف واحد واللام ثلاثون، والراء مائتان ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فهل مع هذا غيره؟ قال: نعم. قال: هاته . قال: "المر" قال: هذه أثقل وأطول. الألف واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان. ثم قال له: هل مع هذا غيره؟ قال: نعم. قالوا قد التبس علينا أمرك فما ندري ما أعطيت! ثم قاموا عنه، ثم قال أبو ياسر للحيي أخيه: ما يدريك؟! لعل محمدا قد جمع له هذا كله وأكثر منه.
قال: فذكر أبو جعفر عليه السلام أن هذه الآيات أنزلت فيهم (منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) قال: وهي تجري في وجه آخر على غير تأويل حيي وأبي ياسر وأصحابهما). [2]
وهذا الخبر مروي في كتب العامة ايضا. ويظهر منه أنه كانت هناك بعض المحاولات لمعرفة هذا السر ولكن بأفكار ساذجة ولم ينبه الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم على خطئهم ولا على ما هو الصحيح.
وعلى كل حال ففي خصوص هذين الحرفين، ذُكرت وجوه أخرى:
منها: أن ياسين إسم من أسماء الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم، وقد ورد ذلك في بعض رواياتنا عن الإمام الصادق عليه السلام، واستدل بالخطاب الوارد بعده إنك لمن المرسلين.[1] وورد التعبير عنه صلى اللّه عليه وآله وسلّم بذلك في بعض الزيارات والأدعية والأشعار. ومنها الأشعار القديمة كالشعر المنسوب الى السيد الحميري على ما في روح المعاني:
يا نفس لا تمحضي بالود جاهدة *** علـــى المـــودة الا آل ياسيـــنا
وورد في بعض الروايات في قوله تعالى: "سلام على ال ياسين" (الصافات: 130) أن الصحيح (آل ياسين) وأن المراد بهم آل محمد صلى اللّه عليه وآله وسلّم وهو غريب، إذ الوارد قبلها ذكر الأنبياء عليهم السلام مع التعقيب في كل واحد بالسلام عليه، وهذه الآية وردت بعد ذكر الياس عليه السلام ولا موجب لإستثنائه من السلام.
وقد ورد مثل ذلك في (طه) وانه أيضا من أسمائه صلى اللّه عليه وآله وسلّم حيث ورد الخطاب بعده: "ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى" وورد التعبير عنه صلى اللّه عليه وآله وسلّم به في الأدعية والزيارات والأشعار أيضا. ولكن كل ذلك لا يوجب الوثوق. ويبقى هذان الحرفان كغيرهما من الحروف المقطعة سرا كامنا.
وقال بعضهم: إن السين اسم للإنسان و(يا) حرف نداء. ووجّهه بعضهم بأن سين أصله انيسين مصغر الإنسان ثم خفف، كقولهم (م اللّه) تخفيفا لجملة (ايمن اللّه).
وهذا إحتمال ضعيف لا يدعمه دليل.
ومثله القول بأن الحرفين مقسم بهما، وحذف حرف القسم.
والقرآن الحكيم... قسم بالكتاب العزيز. واللّه تعالى يقسم في مواضع كثيرة بمخلوقاته ايضا. وحقيقة القسم إنشاء ربط إعتباري بين ما يراد بيانه، وبين عزّة ما يقسم به وكرامته، وهذا واضح من الأقسام العرفية، حيث يقسم الإنسان بحياة إبنه او أبيه أو نفسه ونحو ذلك.. وأقسام اللّه تعالى أيضا لا يشذّ عن هذا الامر، الا أنّ كرامة بعض الأشياء غريبة علينا. وهنا يقسم اللّه تعالى بالقرآن لبيان أنّ محمدا صلى اللّه عليه وآله وسلّم من المرسلين.
وأمّا توصيفه بالحكيم فقد قيل: إنّه مجاز باعتبار اشتماله على آيات من الحكمة، أو باعتبار أنّه كلام الحكيم جلّ وعلا، وقيل: إنّه توصيف للقرآن مجازا كأنّه اعتبر حيّا.
وهذه المحاولات تبتني على أن يكون الوصف خاصّا بحقيقته للحيّ، فيكون إطلاقه على غيره بنوع من التجوز، ولكنّ الصحيح أن الحكيم مأخوذ من الحكمة وهو المنع، والحكيم ذو المنعة، ويقال للإنسان إنه حكيم، إذا كان له من العقل ما يمنعه من السفاهة والجهل، والقرآن ذو منعة على حقيقته، إذ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
إنك لمن المرسلين... هذه هي الجملة المقسم لها، وبتعبير القوم جواب للقسم. ولا يخفى التناسب اللطيف بين المقسم به وهو القرآن، مع توصيفه بالحكمة المقتضية لإعجازه، وبين الجملة المقسم لها وهي كون من أتى به مرسلا من ربه، فهذا القسم في الواقع إشارة الى الدليل والبرهان الواضح على رسالته، وليس من قبيل حلف الحالفين لإثبات موضوع مختلف فيه، فيستغرب بأنّ القسم لا يثبت الرسالة المدعاة.
والتعبير حيث أتى بصيغة الجمع ووصف الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم بأنه من كوكبة المرسلين للردّ على استبعاد بعض المخاطبين إرسال بشر رسولا، كما تكرّر نقله في القرآن، ومنها ما سيأتي في هذه السورة.
على صراط مستقيم... خبر بعد خبر، أو متعلق بالمرسلين، وهو أنسب.. فالمعنى إنّك مرسل على صراط مستقيم تدعو الى ربك. والتعبير يصور الرسول صلى اللّه عليه واله وسلم واقفا على مبدأ طريق منير عام، يدعو الناس الى سلوكه، والنهاية البيّنة من بدوه رضا الرب والخلود في رحمته، والطريق مستقيم واضح أبلج، لا اعوجاج فيه ولا التواء، يناسب الفطرة السليمة والعقل الراجح.
وهذا أيضا دليل آخر على الرسالة الإلهية، فإن الداعين إلى أنفسهم الذين يبتغون بذلك الوصول إلى أهداف مادية، ترى في سلوكهم الإعوجاج الواضح، ويتجلّى من ملامحهم وطلباتهم النهم والجشع، وأما الرسل فالتاريخ يشهد لهم بالنقاء والطهارة، ونكران الذات، والتضحية في سبيل الدعوة.
ولعله لذلك أتى بالصراط نكرة،فإنالتنكير - كما يقولون - للتفخيم، والتفخيم هنا لا يبعد أن يكون من جهة وضوح استقامته، بحيث يعرفه عامّة الناس لا يحتاج الى دقّة علميّة وبحث ومناظرة، فإن الرسالات نزلت لعامّة الناس لا لخواصّهم، وإن كان الخواصّ يعلمون من ميزاتها وخصائصها ما لا يبلغها العامّة.
وأما ما ذكره بعض المفسرين من انه تفخيم لهذا الصراط من بين الصرط المستقيمة - ويقصد بها سائر الشرائع - فيصعب قبوله، لأن الصراط الذي يدعو إليه الرسل، صراط واحد وان اختلفت المناهج، حسب ما يدعو إليه اختلاف مراحل التطور في نضج العقل البشري. قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهيمَ وَمُوسى وَعيسى أَنْ أَقيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فيه..) الشورى: 13.
وأمّا اُحدوثة الصرط المستقيمة التي يدعو اليها بعض أنصار العلمانية من الكتّاب المسلمين، فهو مخالف لصريح القرآن في مواضع عديدة، لعل أبرزها قوله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ...) الانعام: 153.
تنزيل العزيز الرحيم... مفعول مطلق لفعل مقدر، اي نزّل تنزيل العزيز.. ويعود الضمير الى القرآن الحكيم، وقرئ بالرفع اي هو تنزيل... والمصدر حينئذ بمعنى المفعول، ومضاف الى الفاعل وهو اللّه سبحانه وتعالى.
والتوصيف بالعزة والرحمة إشارة الى غناه تعالى عن هداية الناس وإيمانهم، وقبولهم لما أنزله إليهم من هدايات لعزته ومنعته، ولكنه في نفس الوقت رحيم بعباده. ومقتضى رحمته الواسعة أن ينزل عليهم ما يهديهم إلى سعادتهم الابدية.
لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون... تعليل لإنزال القران، وجملة (ما انذر..) وصف للقوم. والظاهر أنّ (ما) نافية والمراد آباؤهم الأقربون لا الأباعد، إذ كان في العرب القدماء رسل، وكانوا يفتخرون بانتمائهم الى إسماعيل عليه السلام.
وقوله (فهم غافلون) تفريع على عدم الإنذار، اي ان عدم الإنذار تسبب في غفلتهم. ومتعلق الغفلة حينئذ ما تدعوهم إليه الفطرة من الإيمان باللّه تعالى وتوحيده، فإن القرآن كغيره من الكتب السماوية، يذكّر الانسان بفطرته.
ويمكن أن تكون (ما) موصولة، والمعنى لتنذرهم بما أنذر به آباؤهم. والفاء تعليل لإنذارهم، يعني انهم لطول الأمد بينهم وبين الإنذار الذي أنذر به آباؤهم، غفلوا عنه، فلزم أن نبعث من ينذرهم ويذكّرهم.
لقد حقّ القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون... حقّ القول اي ثبت القول على أكثرهم. قالوا إن المراد بالقول ما ورد في قوله تعالى مخاطبا لإبليس لعنه اللّه: (قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعينَ) ص: 85.
وحينئذ يقع السؤال عن قوله تعالى (فهم لا يؤمنون) حيث يدل على أن عدم ايمانهم متفرع على ثبوت هذا القول فيهم، والخطاب المذكور اذا انطبق عليهم فهو مترتب على عدم الإيمان دون العكس، ولم ينتبه بعضهم الى هذه المفارقة..
ولكن السيد الطباطبائي رحمه اللّه حاول أن يوجه ذلك بأنّ المراد بالتبعية، إطاعة إبليس إطاعة راسخة في النفس، وان لازمه الطغيان، ولازم الطغيان الانكباب على الدنيا والإعراض عن الآخرة، ومن آثاره أن يطبع اللّه على قلوبهم فهم لا يؤمنون. واستدل في كل هذه المراحل بآيات من القرآن الكريم.
ولكن السؤال يبقى على حاله لأنّ هذا ينتج ــ على تقدير صحته ــ أنّ تبعية ابليس تستتبع عدم الإيمان، وليس مقول القول ان هؤلاء يتبعون ابليس ليتفرع عليه كل ما ذكر، بل مقول القول ان من تبع ابليس يدخل جهنم، ولا يتفرع على ذلك عدم الايمان.
والصحيح انه قد تكرر التعبير بالقول الذي حقّ، والكلمة التي حقّت على بعض الناس، والمراد بكل منهما في كل مورد منها ما يناسب المقام من القول والكلمة التكوينية او التشريعية من اللّه سبحانه، ولا يجب ان يكون ذلك مذكورا بصراحة في آية من الآيات، والمناسب هنا هو القول بان من عاند الحق على علم فإنه يطبع على قلبه فلا يؤمن أبدا.
قال تعالى: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ في طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُون) الانعام: 110 وغير ذلك من الآيات التي تدل على أن الطبع والختم وما يمنع من الايمان انما هو نتيجة العناد مع الحق بعد تبيّنه.
ثم إنّ الآية تحكم على أكثر القوم بأنهم لا يؤمنون. وربما يستغرب بأنّ اكثر العرب آمنوا بل لم يبق الا القليل، ثم يجاب بأنّ المراد الاكثر من طواغيت قريش وهم لم يؤمنوا إلا قليلا. وهذا بعيد عن سياق الآية اذ الضمير يعود الى القوم الذين لم ينذر آباؤهم وهم عرب الجزيرة او اهل مكة.
ولعل الأقرب أن يقال إنّ أكثرهم لم يؤمنوا حقّ الإيمان، بل ان اكثر اهل مكة اسلموا قهرا وفي الظاهر بعد الفتح ولذلك كانوا كثيرا ما يعترضون على أوامر الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم، ويرفض بعضهم الانصياع لبعضها كمتعة الحج، ويرميه بعضهم بعدم العدل في تقسيم الغنائم، ويرفض بعضهم امتثال أمره بحجة أنّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم مريض، وأنّه (والعياذ باللّه) يهجر، ويسكت الآخرون، ويقرّونه على ذلك، مع أنّهم كانوا يتلون قوله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْليما)النساء : 65.
وتبين قلة المؤمنين بعد وفاته صلى اللّه عليه واله وسلم بوضوح، حيث رفضوا إمرة الامام الذي نصبه وليّا عليهم، مع تقدّم بيعتهم له.
إنّا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي الى الأذقان فهم مقمحون... الأغلال جمع غلّ (بضم الغين) بمعنى الصفَـد الذي يربط به الأسير والمحبوس. وأما بالكسر فبمعنى الحقد. والإقماح رفع الرأس الى أعلى. والآية الكريمة تصوّر الكفار المعاندين للحقّ كأنّهم طوّقت أعناقهم بالأغلال، وأنّ الاغلال كثيرة عريضة بلغت أذقانهم، فبقيت رؤوسهم مرفوعة ورفع الرأس حالة من يتأبّى عن قبول الحقّ.
تعبير وتشبيه عجيبان فالقوم يرفضون الانصياع للحق مع علمهم به، فهم كمن يرفع رأسه لإعلان إبائه ورفضه من دون دليل. ومع ذلك فإنّ رفع الرأس له عوامل وأسباب، وهي هنا الأغلال التي بلغت الأذقان واضطرّتهم لرفع رؤوسهم كأنّهم مكرهون على ذلك.
وهذه الأغلال كناية عن ما يمنعهم من الإيمان والانصياع للحق، كالحسد، والكبر، والطغيان، والعزّة بالاثم، ومتابعة الهوى، وجشع المال، وحب الرئاسة، وغير ذلك مما يبتلى به الإنسان نتيجة عناده، ورفضه لقبول الحق أوّل مرّة مع إذعانه له، فهذه الأغلال تحيط به وبعنقه، وتمنعه من رؤية الحق مرّة أخرى، فهي معلولة للعناد الأول، وعلّة للعناد المستمر.
واللّه تعالى ينسب جعل الأغلال الى نفسه. والسرّ فيه أنّ تكوّن هذه الاغلال نتيجة طبيعية للمعاندة، فهو في أوّل مواجهته للحق يجده ويعرفه، ولكنه يعاند لمرض في نفسه. وهذا العناد يتكرر، فيكوّن مجموعة من الأغلال تحيط بعنقه، وتمنعه من رؤية الحق مرة أخرى. وكل ذلك نتيجة طبيعية للعناد، فتنسب إلى اللّه تعالى، لأنّه الخالق والمدبّر.
وجعلنا من بين أيديهم سدّا ومن خلفهم سدّا فأغشيناهم فهم لا يبصرون... السدّ: المانع، والإغشاء هو التغطية. والتعبير يصوّر المعاند محاطا بسدّين من أمامه ومن خلفه، فلا يمكنه أن يرى الا نفسه. ولعل السدّين كناية عن الموانع الخارجية التي تمنع الإنسان من رؤية ما عداه، فالفرق بين هذا التصوير والتصوير السابق، أنّ هذا يصوّره محاطا بموانع خارجية تمنعه من النظر الى ماوراءها، والموانع هي ما تستهويه وتجذبه اليها من الشهوات والملذات، والأوّل يصوّره تحت تأثير العوامل النفسية، وكل ذلك يمنعه من رؤية الحق.
وهذا الإغشاء أيضا يحصل كنتيجة طبيعية للنظر الى الدنيا. قال أمير المؤمنين عليه السلام في وصف الدنيا: (من أبصر بها بصّرته ومن أبصر اليها أعمته) فهذه العمى والغشاوة، والسدّ المانع من رؤية الحق، يحصل قهرا لمن نظر الى الدنيا.. وكل نتيجة طبيعية تستند الى اللّه تعالى كما أسلفناه.
وما ذكرناه من الفرق أقرب مما ذكره الرازي من أنّ الأول لمنعه من النظر في آيات الأنفس لأنه لرفع رأسه لا يرى نفسه، والثاني لمنعه من النظر في الآفاق.
وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون... أي سواء عليهم إنذارك وعدم إنذارك فإنهم لا يؤمنون. وهذه نتيجة القموح والغشاوة فالذي لا يمكنه أن يبصر أمامه اويرى آيات اللّه ببصيرته لا ينفعه الإنذار. والسرّ فيه أن الإنذار لا يتعلق بخطر مشهود وإنما يتعلق بخطر في غيب العالم، فلا بد من بصيرة ثاقبة وهو ما يفقده الإنسان المعاند..
وقد ورد التعبير عن هذا السدّ في موضع آخر بالحجاب، قال تعالى: (وَقالُوا قُلُوبُنا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُون) فصلت: 5 فالقوم ما كانوا يرون الرسول ولا يسمعون آيات اللّه تتلى عليهم ، كل ذلك نتيجة هذا السد والقموح.
انما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب... (إنما) تفيد الحصر هنا بقرينة المقام ان لم نقل بأنها تفيده دائما.
ولكن ما هو المراد بالحصر حيث إنّ الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم كان ينذر الجميع ولكن المعاندين لا يتأثرون بإنذاره؟
يمكن أن يقال: إن الانذار لا يتحقق قطعا اذا كان المخاطب جمادا وأنت تحسبه إنسانا، لأنّ المورد غير قابل في واقع الأمر، ولا أثر لتصور المنذِر وحسبانه.. والآيات هنا تصوّر القوم غير قابلين للإنذار واقعا، وإن كانوا في الظاهر بشرا يمكن إنذارهم، فهذه الآية تدخل ضمن المجموعة التصويرية وتكملها، ببيان أنّ هؤلاء القوم ليسوا كما يظن الرائي قابلين للإنذار.
وكل هذه الآيات تأتي في إطار إيئاس الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم من إيمانهم، وتسليته بأنّه قد أدّى ما عليه بما لا مزيد عليه.
وأما قوله تعالى: (من اتّبع الذكر..) فقد قالوا ان المراد من يتبع، او من اتبع في علم اللّه، لأن الإنذار يتحقّق قبل الاتباع، فلا يكون الاتباع موضوعا له.
ويمكن القول بان الانذار لا يختص بأصل الرسالة والإيمان باللّه واليوم الاخر، بل بكل ما يشتمل عليه الدين من أحكام، فالذي يحصل له الخوف حقيقة ويتحقق فيه الإنذار واقعا، هو الذي اتبع الذكر ورسخ فيه الإيمان. والمراد بالذكر هو القرآن كما قالوا، ويمكن أن يكون مطلق الذكر، اي ما يذكّر الإنسان بفطرته.
والخشية هي الخوف. وقوله (بالغيب) يحتمل أن يكون بمعنى خشيته تعالى في الخفاء، حيث إن كثيرا من الناس يتجنبون المحرمات أمام الناس، ولا يتقون في الخفاء. وعليه فالقيد احترازي. ويحتمل أن لا يكون احترازيا باعتبار أن خشية الرحمن لا تكون الا بالغيب، كالإيمان بالغيب اي ما لا يحس به الإنسان، فإن أساس الكمال في البشر هو ارتباطه بالغيب، فالذي يخشى الرحمن مع انه لا يحس بوجوده تعالى، هو الذي يقع عليه الإنذار على حقيقته.
والتعبير بالرحمن للإشارة الى انه مع رجائه لرحمته، يخشاه فيكون بين الخوف والرجاء. وهذا هو الحال المطلوب للمؤمن .
فبشره بمغفرة وأجر كريم... قرن الإنذار بالتبشير، والخشية بالرحمة، ليبقى المؤمن على حالته بين الخوف والرجاء، فلا يغتر بإيمانه ويأمن عذاب اللّه، ولا ييأس من رحمته تعالى.
والبشارة تتعلق بنوعين من العمل لا يخلو منهما مؤمن، فهناك عمل لا بدّ فيه من المغفرة حتى لا يكون مانعا في سبيل الكمال، وهو الذنب صغيره وكبيره، وحتى ما يصدر من الأنبياء والمعصومين عليهم السلام، مما لا يتوقع منهم لقربهم وجلالة قدرهم، وإن لم يكن ذلك إثما لأنهم معصومون بفضله تعالى.
وهناك ما يعمله المؤمن من الصالحات فيتبعه الأجر الكريم. والكريم يقال لكل أمر قيّم كالأحجار الكريمة. وهذا الأجر لا يعرف قيمته الا اللّه تعالى ولذلك جاء بلفظ النكرة.. فالمغفرة لا حدود لها والأجر أيضا لا يعرف حدوده إلا اللّه تعالى.
إنّا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدّموا وآثارهم... الإتيان بالضمير المنفصل (نحن) للتأكيد على أن الذي يحيي الموتى ليس الا اللّه تعالى. والغرض تعقيب اختلاف أحوال الناس من مطيعين وعاصين بأنّ كل أحد يحاسب على عمله بدقة متناهية، فكل ما قدّموا من أعمال صالحة وفاسدة مكتوب مسجّل، وكل ما تركوا من آثار حسنة وسيّئة مكتوب مسجل، وهذا يشمل كل تأثير خفيّ لعمل الإنسان لا يعلمه إلا اللّه تعالى، فإن الإنسان لا يعلم أنّ ما يصدر عنه من عمل حسن أو سيئ، ماذا يترتب عليه من آثار، وأين يقع في سلسلة العلل والمعلولات.
هذا مضافا الى الآثار المباشرة للعمل وهو الإستنان به من قبل الآخرين، ولذلك ورد في الحديث النبوي الشريف: (من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها الى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء) [2] وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام: (أيّما عبد من عباد اللّه سنّ سنة هدى، كان له أجر مثل أجر من عمل بذلك، و أيّما عبد من عباد اللّه سنّ سنة ضلالة، كان عليه مثل وزر من عمل ذلك من غير أن ينقص من أوزارهم شيء) [3] والإنسان لا يعلم الأعداد الهائلة من البشر الذين يستنّون بسنّته ويقتدون به، فيجب أن يكون القادة متيقظين لما يصدر منهم، وكذا غيرهم وإن قلّ المستنّون بهم، فإنّ عمل الإنسان يؤثر في أولاده على أقلّ تقدير، فيجب الإهتمام بما نعمله جهارا فإنّ هذا هو الذي يستنّ به.
وكذلك العمل الصالح فإنّ هناك من يستنّون به وإن قلّوا. وكل هذا مسجّل عند اللّه وفي صحيفة آثار الإنسان، وإن لم يكن من عمله المباشر.. ولذلك كانت الصدقة جهرا مطلوبة وإن كانت سرا أفضل، فإنّ الجهر بها يدعو الآخرين للإقتداء.
ومن هنا فإن ما يقوله البعض ــ لتبرير ما يصدر منهم من إثم ــ بأنّا لسنا ممن يصلح ظاهره ويفسد باطنه، خطأ فادح فإن الإعلان بالإثم له خطر عظيم.
ولذلك ورد في الحديث ما يدل على ان الإثم الذي يجهر به أبعد من العفو والمغفرة، فإنه يقلّل من شأن التقوى، ويهوّن من فداحة الاثم في اعين الناس، وتترتّب عليه آثار سلبية كثيرة في المجتمع. والمطلوب من المؤمن أن يكون ظاهره حسنا ايضا، بل حتى لو لم يصلح باطنه فإنّ اصلاح الظاهر مطلوب، والاثم في الخفاء أقرب الى الغفران من غيره.[4]
والحاصل أن هذه الآية تشتمل على تخويف عظيم من آثار العمل، وربما لا يترتّب على بعضها العقاب، كما لو لم يكن ما صدر منه جهرا، ولكن علم به بعض الناس فاقتدى به، او أثر ذلك في ضعف ايمانه، او ترتّب عليه في سلسلة العلل والمعلولات آثار سلبية غير مقصودة ولا متوقّعة. ولكن الآية مطلقة وتدل على أنّ كل هذه الآثار مسجّلة، ولا يبعد أن تكون مؤثرة في ما يحصل للانسان من مقام عند اللّه وان لم يكن موجبا للعقاب، فإنّ لكل أحد مرتبة سواء كان في الجنة أو في النار.
قال تعالى: (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللّه كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللّه وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصيرُ * هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللّه وَاللّه بَصيرٌ بِما يَعْمَلُون) آل عمران: 162 ــ 163، وكذا غيرها من الآيات التي تدلّ على ذلك. والدرجة تتغير حتى لو كان العمل غير موجب للعقاب أو كان معفوا عنه، فلنكن على حذر من أعمالنا.
وكلّ شيء أحصيناه في إمام مبين... الاحصاء اي العدّ التامّ قال تعالى (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا..) ابراهيم: 34، وهذا مأخوذ من الحصى حيث كانوا يعدّون بها الاشياء. والمراد بـ (كل شيء) كل أعمال الانسان فان الشيءيتحدد بتناسب المقام كقوله تعالى في قصة ملكة سبأ (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ..) النمل: 23 اي ممّا يناسب شأن الملوك اذ لم توت كل شيء قطعا.
والإمام هو القدوة. والعرب تعبّر عن الشاقول بالإمام، لأنّ البنّــاء يتبعه ويقتدي به في رصّ لبنات البناء. ولا يختص ذلك بالإنسان كما ربّما يتوهم. والظاهر انه هنا هو الكتاب الذي يسجّل فيه كل الأعمال صغيرها وكبيرها. والتعبير عنه بالامام باعتبار أنه يحدّد مصير الانسان فهو كالشاقول.
وتوصيفه بالمبين تأكيد على أنّه يظهر كل شيء، ولا يخفي شاردة ولا واردة, قال تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمينَ مُشْفِقينَ مِمَّا فيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغيرَةً وَلا كَبيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) الكهف: 49.
وليس المراد بالكتاب ما يُكتب فيه من الورق كما يتوهم، وليس مجازا أيضا، بل الكتاب هو المجموعة. ولذلك عبّر عن القرآن بالكتاب قبل أن يكتب في صحيفة. ولا يبيّن القرآن أنّ هذه المجموعة من الأعمال المسجّلة كيف تظهر في تلك النشأة، وإنما بيّن أنّ نفس الأعمال حاضرة، كما ورد في موارد عديدة، ومنها هذه الآية حيث قال: (ووجدوا ما عملوا حاضرا..).
[1] تفسير القمي 2/211
[2] الوسائل 15/25
[3] ثواب الأعمال /119
[4] ففي الحديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: كل أمتي معافى إلا المجاهرين الذين يعملون العمل بالليل فيستره ربه، ثم يصبح فيقول: يا فلان إني عملت البارحة كذا وكذا. وعن أمير المؤمنين عليه السلام: مجاهرة اللّه سبحانه بالمعاصي تعجل النقم. وعن الإمام الرضا عليه السلام : المذيع بالسيئة مخذول، والمستتر بالسيئة مغفور له.