وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبينُ (17) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَليمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
واضرب لهم مثلا أصحاب القرية اذ جاءها المرسلون... الظاهر أن الضمير في قوله تعالى (واضرب لهم..) يعود الى نفس المذكورين سابقا وهم اهل مكة.
وربما يتساءل: ما هو الوجه في أمر الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم أن يضرب لهم مثلا في الإنذار والتبشير، بعد ما مر من التأكيد على عدم الجدوى في إنذارهم بالأمر؟
لعل الوجه فيه أمران:
الأول أنّ الإنذار لا بد من أن يستمر وإن لم يؤمنوا ويئس الرسول من إيمانهم، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة ولتتم الحجة عليهم.
والثاني أنّ القول إنما حقّ على أكثرهم فهناك قليل يؤمّل منهم الخير.
ومعنى قوله تعالى: واضرب لهم مثلا... اي ومثّل لهم مثلا فإن الضرب بمعنى التمثيل كما يقال هذا من هذا الضرب اي من هذا المثال.
ويحتمل في التمثيل إحتمالان:
الأول: أن يكون المثال مثالا لهم فيكون الجار والمجرور (لهم) متعلقا بالمثل. والمعنى أن مثلهم كمثل اصحاب القرية، فيكون كقوله تعالى: (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا..) البقرة: 17. ووجه الشبه أنهم كفروا كهؤلاء، وأتوا بحجج واهية نظير ما تفوّه به هؤلاء، ولم يؤمن منهم إلا القليل بل لم يؤمن الا رجل واحد فقط.
والثاني: أن تكون (لهم) متعلقا بالضرب أي أذكر لهم مثلا يمثل الكافرين والمؤمنين.
والقرية كل ما يجتمع فيه جمع من البشر، وقرى الشيء اي جمعه. وقيل: إن المراد بها انطاكية وقيل غيرها ولا يهم ذلك ولا يصح ما ورد فيه من الأقاصيص والمهم أن نستعبر بالمثل. وقوله تعالى (إذ جاءها المرسلون) ظرف لكونهم مثلا. والضمير يعود الى القرية.
إذ أرسلنا اليهم اثنين فكذّبوهما فعززنا بثالث... (إذ ارسلنا) ظرف أيضا، وبدل من الظرف السابق، وهو بيان تفصيلي لإرسال الثلاثة، فالقوم جاءهم إبتداءا رسولان. وهو بنفسه غريب ويدل على أهميّة هذه القرية نظير إرسال موسى وهرون عليهما السلام الى فرعون، بل ان إرسال هرون كان بطلب من موسى عليهما السلام لا ابتداءا، كما هو ظاهر الآية هنا، بل زادت هذه القرية بتعزيز الرسولين بإرسال رسول ثالث بعد أن كذبوهما.
والتعزيز التقوية والمنع والنصرة. وظاهر الآية وما بعدها أنهم رسل اللّه سبحانه وإن لم يكونوا أصحاب شرائع، ولكنبعض الروايات تقول إنهم أرسلوا من قبل عيسى عليه السلام. وليس في ذلك ما يعتمد عليه.
فقالوا انا اليكم مرسلون... هذا ليس بالطبع نقلا حرفيا لكلامهم خصوصا بعد أن كذّبوهما، فجاء الثالث يعززهما، فلا بد من ان تكون هناك مقدمات ومحادثات طويلة، ومطالبة من القوم بالدليل والآية. ولا بد من إتيانهم بمعجز يدل على ارتباطهم باللّه تعالى.
فالمراد بهذه الآية ذكر مقدّمة تبيّن عرضهم للرسالة تمهيدا لبيان ردّ فعل القوم وهو المذكور في الآية التالية.
قالوا ما أنتم الا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء ان أنتم الا تكذبون... ثلاث جمل أجابوا بها دعوة الرسل:
الاولى: ما أنتم الا بشر مثلنا.. وهذا الإعتراض مما يدلّ على أنهم أرسلوا من قبل اللّه تعالى، إذ لو كانوا من قبل عيسى عليه السلام لم يكن وجه للإستغراب.
وهكذا واجه القوم رسل ربهم كعادة من قبلهم ومن بعدهم، وردّوا الدعوى المدعومة بالآيات والمعجزات بالقول المتكرر: (ما أنتم الا بشر مثلنا).
وهذا الاعتراض يشتمل على جزء آخر منطو في كلامهم، وهو أن اللّه تعالى لا يرسل بشرا برسالته اذ لا فرق بين بشر وبشر فلو كان البشر لائقا لرسالة السماء لكان الأجدر بها رجل منّا عظيم له مال وولد وجاه في العشيرة!! وقولهم (مثلنا) يقصدون بها أنهم مثلهم في البشرية لا أنهم لا يملكون مميزات. والغرض أن الرسول يجب أن لا يكون من البشر كما قاله سائر الأقوام.
والبشر منذ قديم الأيام يواجه رسالات السماء بهذا الإستبعاد المتكرر، وكأنّ بعضهم يوصي إلى من بعده، كمـا قال تعــالى: (أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ) الذاريات: 53، ويستغربون من أن يرسل اللّه تعالى بشرا مثلهم رسولا اليهم، حيث إنهم ينظرون الى أنفسهم فلا يجدون فيها قابلية الرسالة ويحكمون على كل البشر بمثل ذلك. وهذا هو القياس الباطل الذي يختاره كثير من المتفقهة أساسا لاستنباط الحكم الشرعي!
والجملة الثانية: ما انزل الرحمن من شيء.. وبذلك ينكرون الشريعة. ولعله بدليل أن اللّه تعالى لم يرسل ملكا الينا فلم ينزل شريعة وتركنا نعمل ما نشاء.
ثم ان التعبير بالرحمن ان كان من القوم، فلعلهم أرادوا القول بأن اللّه تعالى رحيم بعباده، فيتركهم وشأنهم، وهذا ما يكرره بعض من لا يسعه إنكار الرب في هذا العصر تقليدا لا عن علم، ولكنه لا يريد متابعة الشريعة التي تقيّد حرياته، فيقول ان اللّه تعالى رحيم بعباده فلا يمكن أن يذهب بهم إلى النار لمجرد أنهم عصوه او ارتكبوا الآثام واتّبعوا الشهوات!!
ويمكن أن يكون وصف الرحمن في الحكاية فهم نفوا أصل الإنزال من قبل الرب جلّ وعلا، دون توصيفه بالرحمن، واللّه سبحانه في حكاية قولهم يأتي بهذا الوصف إيذانا بالرد عليهم، فان رحمته تعالى تقتضي أن ينزّل على عباده ما يسلك بهم سبيل السعادة.
والجملة الثالثة: إن أنتم إلا تكذبون.. وهذه نتيجة الجملتين السابقتين. و(ان) نافية وهي مع (الا) تفيد الحصر اي ليس لكم شأن في هذا المقام الا الكذب.
قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون... إستشهدوا بعلم اللّه تعالى وهو بمنزلة الحلف، ولذلك صدّر الخبر بلام القسم. ولم يأت هذا التأكيد في إعلانهم الأول وانما أتى في الإعلان الثاني لأنه كان بعد التكذيب.
وربما يستغرب الإستشهاد والحلف بأنهما لا يفيدان شيئا في مقام الإحتجاج. وأجيب عن ذلك بأن الاستدلال انما هو في قولهم: (وما علينا الا البلاغ المبين) حيث ان البلاغ لا يكون مبينا إلا اذا سانده دليل وآية.
وقال العلامة الطباطبائي رحمه اللّه: (والمعنى إنا مرسلون إليكم صادقون في دعوى الرسالة ويكفينا في ذلكم علم ربنا الذي أرسلنا بها، ولا حاجة لنا فيه إلى تصديقكم لنا، ولا نفع لنا فيه من أجر ونحوه ولا يهمنا تحصيله منكم، بل الذي يهمنا هو تبليغ الرسالة وإتمام الحجة). والتكلف فيه ظاهر، واستخراج هذه المجموعة من الأهداف من هذه العبارة غريب، مضافا الى أن ظاهر العبارة انه بمنزلة القسم كما ذكره العلامة أيضا، وما ذكر لا يحتاج الى القسم.
ويمكن أن يقال: إن هذا نظير الإكتفاء بشهادة اللّه على الرسالة، كما قال تعالى: (وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللّه شَهِيدًا) النساء: 79 ، وقال أيضا: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللّه شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) الرعد: 43، وغير ذلك، وهي كثيرة. والظاهر أن المقصود بهذا البيان هو التهديد والوعيد بنزول العذاب كالآية التالية وليس المقصود الإستدلال.
وما علينا الا البلاغ المبين... الظاهر أن هذه الجملة أيضا يقصد بها التهديد، وتقريره انا قد بلّغناكم غاية التبليغ وجئناكم بالآيات والبراهين ونوكل الأمر بعد ذلك الى اللّه تعالى، حيث كان القوم يعترفون باللّه ويخافون سطوته، وقد سمعوا أنباء الامم السابقة.
قالوا انا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم... التهديد الظاهر في لحن الجملتين السابقتين أثار غضب القوم وحفيظتهم فاستندوا الى قوّتهم وهدّدوا رسل اللّه، ولكنهم مهّدوا للتهديد باختلاق حجة يبرّر لهم التعذيب، فقالوا انّا نتشاءم بكم ونظنّ أن ما يصيبنا من البلاء انما هو من شؤمكم وشؤم دعوتكم، فلئن لم تنتهوا عن ذلك لنرجمنّكم وننزل بكم عذابا أليما. والرجم هو الضرب بالحجارة وفي ذلك من التحقير والهتك ما لا يخفى.
والتطيّر مأخوذ من الطير، حيث كان العرب يتشاءمون ببعض الطيور كالغراب ويسمونه غراب البين، او يتشاءمون بحالات خاصة للطير كعبوره عن الجانب الأيسر، ومن هنا عبر عن كل تشاؤم بالتطير.[1]
وهذه المواجهة أيضا مما تداولته الأقوام، قال تعالى حكاية عن قوم فرعون: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ) الأعراف: 131، وقبلهم قوم ثمود قال تعالى: (قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) النمل: 47 وهذه حيلة من يعجز عن مقابلة الدليل والبرهان فيتشبث بالاتهامات الواهية التي لا يمكن اثباتها، او بالاستهزاء والسخرية.
قالوا طائركم معكم... أي ما ينبغي أن تتشاءموا به او ما هو سبب للشؤم واقعا معكم، فعبّروا عن ما هو سبب الشؤم والشقاء بالطائر من باب المقابلة ومجاراة الخصم في التعبير، والمراد به اعمالهم فالعمل هو السبب في الشؤم والشقاء. ولعل من هذا الباب قوله تعالى: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) الاسراء: 13. وقيل: الطائر بمعنى الحظ او الشؤم نفسه.
أئن ذكّرتم... الهمزة للإستفهام الإنكاري، وجواب الشرط محذوف..أي أئن ذكرتم بما تدعوكم اليه فطرتكم كذّبتم واستهزأتم وتشاءمتم وتطيّرتم؟! أهذا هو جواب المنطق والبرهان؟! والتعبير بالتذكير يفيد أنهم كانوا يعرفون الحق بفطرتهم ولكنهم غفلوا عنه او تغافلوا.
بل أنتم قوم مسرفون... أي تجاوزتم الحد واستكبرتم وطغيتم. والإسراف التجاوز عن الحدّ في أي شأن من الشؤون. و(بل) للإضراب، أي ليس الأمر كما تزعمون من التشاؤم، بل الشؤم أتاكم من إسرافكم.
[1] كما ورد في لسان العرب : "وقيل للشُؤْم طائرٌ وطَيْرٌ وطِيَرَة لأَن العرب كان من شأْنها عِيافةُ الطَّيْرِ وزَجْرُها، والتَّطَيُّرُ بِبَارِحها ونَعِيقِ غُرابِها وأَخْذِها ذَاتَ اليَسارِ إِذا أَثارُوها، فسمّوا الشُّؤْمَ طَيْراً وطائراً وطِيرَةً لتشَاؤُمهم بها" .