ياحَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (30) أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَميعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32)
ياحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول الا كانوا به يستهزءون... بعد الإنتهاء من ذكر المثال ــ وهو حديث اصحاب القرية ــ جاء بهذا التعقيب المناسب لتعم النتيجة. و(يا حسرة) نداء للحسرة والتأسف كأنك تنادي الحسرة بأنّ هذا موضعك. وهذا من كلام اللّه سبحانه ولا يلزم منه أن ينسب التأسف إليه تعالى وهو منزه عنه، بل المراد إنشاء أنّ هذا موضع أسف الآسفين. والتركيز على كلمة العباد للإيذان بأنّ كونهم عبادا للّه الذي أنعم عليهم ببعث الرسل، أدعى للاسف، حيث قابلوا هذه النعمة بتكذيب الرسل، بل الإستهزاء بهم.
ومن الغريب اتفاق الامم على ذلك وكأنّهم تواصوا به، حتى لم يبق رسول من رسل اللّه سبحانه لم يواجه هذا الإستهزاء ــ كما هو صريح الآية المباركة ــ والتعبير بأنهم كانوا يستهزءون يدل على الإستمرار في ذلك، وأنه لم يكن حدثا عابرا وإنما كان ذلك دأبا لهم وعادة مستمرة.
ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنّهم اليهم لا يرجعون... استفهام تقريري يطلب منهم الإقرار بأنهم رأوا ذلك. والقرون: المجامع البشرية، مأخوذ من قرن الشيء بالشيء اذا جمع بينهما، ويطلق على مجموعة من البشر في زمان أو في مكان، وعلى الإعتبار الأول يطلق ايضا على نفس الزمان الذي يجمعهم، ثم اصطلح على مجموعة خاصة من الزمان أي مائة عام حسب بعض المصطلحات. [1]
والمعروف في تفسير الآية أنّه تنبيه للبشر الحاضر المخاطب أن يتعظ بموت من قبله، فهذه القرون والمجتمعات البشرية البائدة، قد أهلكهم اللّه جميعا ــ جماعات وفرادى ــ بعذاب أو بدونه، فإنهم يجدون ان الذي فات ومات، لا يرجع، فليتعظوا بذلك وكفى بالموت واعظا. وبناءا على هذا التفسير فقوله (انهم اليهم لا يرجعون) بدل عن (كم اهلكنا) اي ألم يروا أنهم لا يرجعون اليهم. فالغرض من التنبيه هو الإلتفات الى عدم رجوع الموتى.
ولكن لا يبعد أن يكون الغرض هو التنبيه على الإتعاظ بمصير المجتمعات التي نزل عليها العذاب الإلهي، وهو المناسب للمثال المذكور (اصحاب القرية) وكذلك للتعبير بالإهلاك. وبناءا على هذا التفسير فلا يبعد أن يكون قوله (انهم اليهم لا يرجعون) بيانا لكيفية الإهلاك لا بدلا عن (كم أهلكنا).. يعني أن اللّه تعالى قد أهلكهم بكيفية لا رجوع لهم، والمراد ليس رجوع الأشخاص بل رجوع المجتمع والحضارة.. فالغرض الإتعاظ بمصير الحضارات البائدة التي أهلك اللّه مجتمعاتها بعذاب الإستئصال، فلم يبق لهم إلا ذكر في التاريخ أو أثر للإعتبار.
وان كل لمّا جميع لدينا محضرون... اي ان الهلاك ليس نهاية أمرهم بل انهم مجموعون ومحضرون لدينا للحساب. و(لمّا) بمعنى (الّا) فتفيد الحصر مع (إن) النافية، اي لا يشذ منهم قرن ومجتمع بل كلهم يجمعون ويحضرون لدينا. و(محضرون) خبر بعد خبر و(لدينا) متعلق به. وقوله (جميع) بمعنى مجموع، والتنوين في (كل) بدل عن القرن في الآية السابقة، اي كل مجتمع منهم مجموع هناك. ومحضرون اي مقهورون على الحضور عندنا.
وتدل الجملة على ان كل مجموعة في الدنيا تجمع هناك ايضا فهناك مصير جمعي مشترك، وهناك مصير فردي لكل شخص. ويدل على هذا الأمر ان الكتاب ايضا كتابان كتاب للأمة ولكل فرد كتاب مستقل. قال تعالى: (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا...) الجاثية : 28، واما ما ذكر فيه كتاب الفرد فكثير، منها قوله تعالى: (وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) الاسراء: 13-14.
[1] والقَرْنُ الأُمَّةُ تأْتي بعد الأُمَّة، وقيل: مُدَّتُه عشر سنين، وقيل: عشرون سنة، وقيل: ثلاثون، وقيل: ستون، وقيل: سبعون، وقيل: ثمانون وهو مقدار التوسط في أَعمار أهل الزمان.... وقيل: القَرْن مائة سنة، وجمعه قُرُون. ابن الأَعرابي: القَرْنُ الوقت من الزمان يقال هو أَربعون سنة، وقالوا: هو ثمانون سنة، وقالوا: مائة سنة ... ( لسان العرب )