مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْديهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْري لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْديرُ الْعَزيزِ الْعَليمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَديمِ (39) لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغي‏ لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ في‏ فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)

 

وآية لهم الارض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون... الضمير في قوله (لهم) يعود الى العباد. والميتة والميّتة واحد. والارض الميتة التي لم تعمر بزرع او بناء. والآية تنبه الإنسان وتلفت نظره الى أقرب مسرح للحياة اليه، ليرى بأم عينه ــ من دون حاجة الى مجهر او بحث علمي ــ أنّ الحياة تدبّ في الأرض الميتة بنزول المطر عليها، ثم يخرج منها الحبّ ليأكل منه الانسان.

والغرض من ذلك التنبيه على أنّ الاحياء بعد الموت أمر مستمرّ في الطبيعة وكما أنّ الله تعالى يحيي الارض الميتة باستمرار سيحيي الانسان بعد موته.

والحبّ يشمل القمح وغيره، فيمكن أن تكون (من) تبعيضية فإن بعض الحب لا يأكله الإنسان. وجملة (أحييناها) يمكن أن تكون وصفية باعتبار أن الأرض وان كانت معرفة الا انها للجنس وليست مميزة، فيجوز توصيفها. وهناك من المذاهب النحوية ما يرفض توصيف المعرفة حتى في هذا الفرض، ويمكن اعتبارها جملة استينافية لبيان كون الأرض الميتة آية، كأنّ سائلا يسأل كيف كانت الارض الميتة آية؟ فيأتيه الجواب (أحييناها) اي بهذا الاعتبار كانت آية.

وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجّرنا فيها من العيون... عطف على (أخرجنا) فإن هذا أيضا من نتائج الإحياء. والجنة: البستان الذي يستر شجره الارض من (جنّ) بمعنى ستر.. ولعل تخصيص الذكر بالنخيل والأعناب لكثرتهما وكثرة أنواعهما ولأن ثمرهما من أغنى الثمار، من حيث القيمة الغذائية، ولأنهما ينبتان في أكثر بقاع الارض خصوصا العنب. والعنب يطلق على الشجر والثمر.

وقوله (وفجرنا) أيضا عطف على (أخرجنا) لأن تفجير العيون أيضا من نتائج الإحياء بإنزال المطر. وضمير (فيها) يعود الى الارض او الجنات. و(من) قيل: انها زائدة اي وفجّرنا فيها عيونا، وقيل: ان المفعول محذوف وهو (شيئا) و(من العيون) صفته.

ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم... تعليل لما سبق، والضمير في (ثمره) قيل: يعود الى الجنات بتأويل انها المجعول فلذلك افرد وذكـّر. وقيل: يعود الى اللّه تعالى، اي من الثمر الذي خلقه فيكون تمهيدا لاستنكار عدم الشكر.

و(ما) يمكن ان تكون نافية فالمراد انهم ياكلون من ثمره الذي لم يعملوه بايديهم وان غرسوا وسقوا، وهذا الاحتمال يناسب عود الضمير اليه تعالى. ويمكن ان تكون موصولة اي لياكلوا من الثمر الطبيعي ومما عملته ايديهم من تصنيع المنتوج بطبخ ونحوه فكلّه يعود الى النعمة الطبيعية، فلا وجه لما قيل من ان الغرض بيان نعم اللّه الحاصلة بتدبيره من دون دخل لغيره.

أفلا يشكرون... الاستفهام للاستنكار، والفاء للتفريع، أي مع كل هذه النعم التي يتنعمون بها في حياتهم ويتلذذون فكيف لا يشكرون المنعم بعبادته، وطلب مرضاته، والائتمار بأوامره، والابتعاد عن نواهيه، مع أن كل ذلك ايضا لصالحهم؟!

سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الارض ومن أنفسهم... (سبحان) مصدر سبّح يسبّح، اي اسبّح سبحان الذي... وهو انشاء تسبيح منه تعالى لنفسه تنويها على تنزيهه من أن يشاركه أحد في تدبيره، فهو الخالق للأزواج كلها. و(من) في المواضع الثلاثة للبيان.. فالأزواج نبات وبشر وأمور اخرى لا يعلمونها.

والأزواج جمع زوج، وهو كل ما قرن بشيء آخر، ومنه الزوجان الذكر والانثى. فالآية تشير الى تركّب النبات من الذكر والأنثى وهو أمر لم يكن يعلمه البشر في ذلك العصر إلا في بعض الأشجار كالنخل. ولا يبعد شمول ما تنبت الأرض للحيوان أيضا بل وللإنسان، كما قال تعالى: (واللّه أنبتكم من الأرض نباتا) نوح: 17، فيكون (ومن أنفسهم) من ذكر الخاص بعد العام. 

ومما لا يعلمون... إشارة الى وجود الزوجين في أشياء أخرى كثيرة لم يصل إليها علم البشر في ذلك اليوم، ولعله لا يصل إلى بعضها أبدا.. ولا يختص ذلك بزوجية الذكر والأنثى ــ كما يتوهم ــ فلا مانع من شموله للزوجية في الذرة حيث تقترن أجزاؤها التي تتشكل منها. والزوج والزوجان: المثلان المتقارنان، ولا يطلق إلا إذا كان كل منهما مكملا للآخر بوجه، كزوجي الباب والحذاء مثلا.

وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فاذا هم مظلمون... مجموعة آيات تشير الى آيات اللّه تعالى في الكون، فمنها آية الليل والنهار وهما آيتان تتكرران بمرور الزمان، ويمر عليهما الإنسان دون تأمّل. والقرآن يثير الإنتباه إليهما في آيات عديدة، ومن وجوه شتى، فمنها ما ورد هنا حيث شبّه الليل كأنّه ملبوس بالنهار، فيسلخ اللّه منه النهار كما يسلخ الجلد من الحيوان، وفجأة يغرق الناس في الظلام.

قال في العين: (انسلخ النهار من الليل: خرج منه خروجا لا يبقى معه شي‏ء من ضوئه). ومن هنا صح الاتيان بـ (اذا) الفجائية، فان الظلام لا يفاجئ وجه الارض بل يأتي تدريجا في كل افق، ولكن اذا لم يبق شيء من الضوء فاجأ الظلام. ومصحح التعبير بالمفاجأة أنه أمر غريب يحصل في مدة قليلة فيكون مفاجئا لمن يلاحظ الافق مستمتعا بضوء النهار.

والمتعارف في هذا التشبيه هو العكس حيث يشبّه الليل كخيمة مطبقة على الأرض. ولعل الغرض الاشارة الى أنّ الأصل في الكرة الارضية هو الظلام وأنّ الضياء يعرض عليها من الشمس، فالنهار هو العارض الذي يسلخ. وليس معنى ذلك أن الليل سابق على الأرض زمانا، بل المراد أن الضياء هو الذي يحتاج إلى موجب.

ويأتي في جملة (نسلخ منه النهار)  ما مرّ من الوجهين في جملة (أحييناها) من كون الجملة استينافية لبيان كون الليل آية او وصفية باعتبار كون الليل جنسا.

وقوله: (مظلمون) اي داخلون في الظلام، كقولهم أصبح اي دخل في الصباح.

والشمس تجري لمستقر لها... قديما كان المفسرون يفسرون هذه الآية بما يـبدو للإنسان من جريان الشمس حول الأرض في كل يوم، ويفسرون المستقر بوجوه غريـبة، أقربها أن المراد هو مدارها المتغير صيفا وشتاءا..

وهناك روايات غريـبة حول مستقر الشمس، منها ما رواه القوم في صحاحهم وننقل هنا ما رواه الآلوسي في روح المعاني قال:

(وفي غير واحد من الصحاح عن أبي ذر قال: «كنت مع النبي صلّى اللّه عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس فقال يا أبا ذر أتدري أين تذهب هذه الشمس؟ قلت اللّه تعالى ورسوله أعلم قال: تذهب لتسجد فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها فيقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله عز وجل: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها...وفي رواية أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟قالوا: اللّه تعالى ورسوله أعلم قال: إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة، الحديث.. وفي ذلك عدة روايات وقد روي مختصرا جدا..وأخرج أحمد والبخاري ومسلم وأبوداود والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي عن أبي ذر قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عن قوله تعالى: وَ الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها قال مستقرها تحت العرش..فالمستقر اسم مكان والظاهر أن للشمس فيه قرارا حقيقة...) [1]

وارتبك الآلوسي في تفسير هذه الاحاديث وتطبيقها على الواقع المعلوم في ذلك العهد، واضطر أخيرا أن يثبت للشمس نفسا ناطقة كالإنسان، وان نفسها هي التي تسجد تحت العرش.

ولما عزّ على الآلوسي ان يروي القوم في صحاحهم مثل هذه الاحاديث نسب الى الإمامية حديثا أغرب، وهو ان الشمس عليها سبعون الف كلاب (!) وكل كلاب (!) يجرّه سبعون الف ملك الى آخره!! ولا أدري أين وجد هذا الحديث ولماذا أبدل الكلب بالكلاب، ومهما كان فنحن لا ندّعي صحة أحاديث كتاب مهما بلغ، وانما الإعتراض على زعم القوم من التسليم لأحاديث ما سموه بالصحاح.

وأما المتأخرون حيث ثبت لهم بفضل العلم الحديث أن الشمس لا تجري حول الأرض، وان حدوث الليل والنهار إنما هو بدوران الأرض حول نفسها فقد فسروا الآية بأن المراد جريان الشمس الى مستقر لها حيث تقف عن الحركة، فاللام بمعنى إلى والمراد بالجريان الحركة التي كشف عنها العلم حديثا، حيث تجري هي بمجموعتها وبسرعة هائلة نحو موضع من الفضاء.

ولكن الظاهر أن المراد هو الجريان الظاهري الذي يراه ويعرفه كل إنسان، وبذلك يكون آية من آيات اللّه تعالى، ونعمة من نعمه حيث يتسبب في حدوث الليل والنهار.. وأما هذا الجري الذي لا يعرفه الا الأخصائيون وربما يظهر بعد مدة من الزمان خطؤهم، فلا يمكن أن يكون هو المقصود بالآية الكريمة، اذ ليس أمرا يعرفه الناس ولا يحقق نعمة عليهم، فكيف يكون آية من آياته تعالى.

ولا مانع من التعبير عن هذا الأمر الكوني بما يظهر للعيان من أنه جريان الشمس حول الأرض، فإن القران ليس كتابا علميا وإنما هو كتاب هداية يهدي الإنسان لما لا يمكنه الوصول إليه من عالم الغيب وحقائقه، والتعبير بالجريان انما هو حسب رؤية الانسان وإحساسه، كما اننا أيضا نعبر عن هذه الحركة في مجال محادثاتـنا اليومية بذلك، ولا نعبر عن طلوع الشمس مثلا بدوران الأرض الى مرحلة يرى فيها الشمس، وكذلك التعبير بورود الشمس في برج كذا أو خروجها من برج كذا ونحو ذلك.

والمراد بالمستقر ما تقرّر لها من المدار الذي يتغير في فصول السنة بدقّة متناهية حسب ما نشاهده اويتبيّن بالمحاسبات الرياضية الدقيقة.

ذلك تقدير العزيز العليم... الإشارة بالبعيد مع أنه قريب في الذكر، للتنويه على عظمة هذا التقدير ودقّته، وهو تقدير العزيز أي الغالب على كل الموانع مهما كانت، العليم بما لا بد منه في  تدبير ذلك. ولعل التعبير بالعزيز الغالب بدلا عن القدير للتنبيه على وجود موانع طبيعية أمام هذا التدبير.

والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم... تشبيه لكيفيات الوجه المرئي من القمر لدينا بمنازل ينزل فيها القمر، وهي ثمان وعشرون حالة أولها الهلال وأوسطها البدر وآخرها الهلال أيضا ولكن معكوسا.

وعلى هذا فلا حاجة إلى ما قاله المفسرون من أن هناك تقديرا في اللفظ، وهو أن القمر قدرنا له منازل أو قدرناه ذا منازل أو غير ذلك، فان التجوز انما يكون في التعبير عن الحالات بالمنازل، ولكن بناءا على ما قلنا يكون القمر بذاته اي بوجهه المرئي لنا مقدرا بها.

والعرجون عذق النخل، والقديم منه له ثلاث صفات شبه القمر في آخر حالاته به من حيث هذه الصفات، وهي الإصفرار والذبول والإنحناء. والغرض من الآية التنبيه على أن هذه المنازل والحالات تسهل لكم الحساب والتاريخ، ويمكن لكل إنسان أن يميز التاريخ القمري على وجه التقريب بملاحظة حالة القمر من دون دراسة وبحث وبلا حاجة الى تقويم، بل ربما قيل: إن الملاحظة الدقيقة، توجب معرفة التاريخ بدقة..وهو كلام غريب.

لا الشمس ينبغي لها ان تدرك القمر ولا الليل سابق النهار... تشير الآية الى دقة النظام في الكون، وعدم طروء أي تغيير لا في السرعة ولا في المسار، فلا يمكن للشمس أن تدرك القمر بمعنى أن تزيد من سرعتها فيتغير النظام الفلكي، ولا الليل يـسبق النهار بمعنى أن يشغل جزءا من النهار أكثر مما هو مضبوط حسب النظام الدقيق الثابت طيلة تاريخ الكون.

وكل في فلك يسبحون... الظاهر أن المراد بـ (كل) أي كل كوكب ونجم، فكل واحد من الكواكب والأنجم، يسبح في فلكه، وإن لم يسبق ذكر للكواكب والنجوم، إلا انه معلوم من السياق. والفلك كل مسار دائري. والتعبير بالسبح يناقض الفرضية الفلكية السائدة في تلك العصور القائلة بأن كل واحد من الكواكب والنجوم ثابت في جسم يدور به.

وقيل: إن المراد كل من الشمس والقمر والليل والنهار، وشمول السبح في الفلك لليل والنهار باعتبار أن حالتي النور والظلام تتلاحقان على مختلف البقاع في الأرض، وكأنّ كلا منها يتعقب الآخر، فشبّه هذه الحالة بالسبح في فلك. ولكنه بعيد كما لا يخفى.



[1] روح المعاني ج12 ص12