وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَريخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حينٍ (44)
وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون... وبمناسبة الفَلَك يذكرهم بالفُلك آية اخرى والكلمتان من منشأ واحد. والفلك السفينة يطلق على المفرد والجمع. ولعل تسميتها بالفلك باعتبار أنه يدار بها على الماء كما في معجم مقاييس اللغة.
والظاهر أن المراد به هنا سفينة نوح عليه السلام، نبّه عليها مقدمة للتـنبيه على الفلك الموجود باعتبار أنها أول سفينة صنعت على وجه الأرض، وان منه تعلم البشر صنع الفلك، وكان ذلك بوحي من اللّه تعالى وإشراف مباشر قال تعالى: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا..) هود: 37.
ثم انها تعدّ نعمة كبرى للبشرية حيث انهم بقوا على وجه الأرض بفضل تلك السفينة، قال تعالى: (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ) الصافات: 77. ويدلّ على كون المراد سفينة نوح عليه السلام التعبير بفعل الماضي (حملنا) وكذلك وصف الفلك بالمشحون أي المملوء حيث أمر اللّه تعالى نوحا عليه السلام أن يحمل معه من كل صنف مما يحتاج اليه البشر قال تعالى: (قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ..) هود: 40.
يبقى الكلام في التعبير بالذرية في قوله تعالى: (حملنا ذريتهم) والظاهر أن المراد بهم كل من تبقى من البشر ممّن لم تشملهم كلمة العذاب الإلهي في ذلك العصر، والذرية بمعنى ما ذرّ وانتشر وليس بمعنى الاولاد خاصة. والضمير يعود الى البشر السابقين فيكون بمعنى أنه تعالى حمل كل الذرية في تلك السفينة إبقاءا للنسل، والا لشملهم الفناء ولم يبق على وجه الأرض بشر. وعلى هذا فالمعنى في الآية التالية واضح ايضا، وهو انا خلقنا لهم فلكا مثل تلك السفينة.
وأما القوم فلم يرقهم هذا التفسير الواضح المنقول عن بعض الأقدمين ومنهم ابن عباس، بل عبّر عنه العلامة الطباطبائي رحمه اللّه بأنه تفسير رديء، ولم يذكر وجها لرداءته، وكأنهم لم يستوعبوه تمام الإستيعاب مع عظم شأنهم، ففسروا الآية بأن المراد حمل الناس في الفلك، وارتبكوا في تفسير الذرية فقالوا إن تخصيصهم بالذكر وهم صغار الأولاد او الأولاد عموما من جهة انهم أحوج الى المركوب، والكبار يمكنهم المشي.
وهو كلام غريب، فإن السفن تسير في البحر، ولا يستفاد منها غالبا للإنتقال من ساحل الى ساحل لمخاطرها، والغالب أن الكبار هم المستفيدون، بل يُمنع الصغار من الركوب غالبا.
و قال العلامة إن ذكر الذرية لإثارة الشفقة والرحمة. وهو أغرب من سابقه، فما دخل الشفقة بذكر الآية، خصوصا مع كونه في الغالب مما يستخدمه الكبار؟!
وقالوا إن التوصيف بالمشحون للإشارة إلى أنهم لا يكتفون بركوبها، بل يحملون عليها أمتعتهم ايضا.
ولكن مجرد امكان حمل الامتعة لا يبرر توصيف السفينة بالمشحون فقد لا يكون فيها إلا الركاب وأمتعتهم القليلة، فمن الواضح ان هذا الوصف يراد به توصيف سفينة بذاتها كانت مشحونة وممتلئة.
ثم إن التوصيف بالمفرد المذكر (المشحون) يدل على أن المراد بالفلك، هو المفرد لا الجمع، فلا يصح ما ذكروه من أن المراد سائر السفن.. وهذا أيضا دليل واضح على ما ذكرنا.
وخلقنا لهم من مثله ما يركبون... تبيّن بما ذكرنا أن المراد بقوله تعالى: (من مثله) سائر السفن، والضمير يعود إلى الفلك في الآية السابقة. أيوخلقنا لهم سفنا مثل سفينة نوح عليه السلام. والسفن وإن كانت من صنع البشر، إلا أن كل شيء مخلوق للّه تعالى، فهو الذي خلق المواد التي يصنع منها البشر ما يشاء، وأودع فيها الخصائص التي يستفيد منها الإنسان، وهو الذي جهزه بما يتوقف عليه الصنع من قوة عقلية وجسمية. وفي النهاية لا يتحقق شيء في الكون الا بإرادته وأمره تعالى.
وأما على تفسير القوم فالمراد بما يركبون في هذه الآية سائر ما يركب كالدواب، وربما اعتبر منها المراكب الحديثة أيضا. وعلى ذلك فتكون هذه الآية فاصلا بين الآية السابقة وما تعقبها في الآية التالية، إذ أنها لا تناسب سائر المراكب لإشتمالها على الغرق. وأما على ما ذكرناه فالآية التالية ترتبط بهذه الآية لا بسابقتها، وهذا أيضا دليل آخر على صحة ما ذكرناه، والحمد للّه.
وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون... الصريخ بمعنى المغيث، سمّي به لأنه يجيب صرخة المستغيث. والإنسان اذا كان في سفينة وفي وسط البحر لا يسمع صرخته أحد غالبا، فلا صريخ له يغيثه ولا منقذ ينقذه.
والمراد بهذه الآية التنبيه على حالة الإنقطاع الذي يحصل للإنسان في البحر، حيث لا يمكنه التوسل بما ينقذه من الغرق ويوصله إلى الساحل إذا تقاذفته الأمواج، فييأس من الحياة ولا يجد من يتوسل به إلا اللّه تعالى. وهذه الحالة تحصل للإنسان في غير البحر أيضا عندما تنقطع الاسباب ويفقد الأمل.. وهذا الأمر من دوافع التوجه الى اللّه تعالى. والطريق للوصول اليه من جهة القلب أقرب الطرق وأوثقها.
ولذلك تكرر في القرآن الكريم التنبيه على ذلك كقوله تعالى: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرينَ * قُلِ اللّه يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) الانعام: 63ــ 64.
وقوله تعالى: (هُوَ الَّذي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِريحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها ريحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللّه مُخْلِصينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرينَ * فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ..) يونس: 22 ــ 23.
وقوله تعالى: (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) الاسراء: 67. وغير ذلك.
إلا رحمة منا ومتاعا الى حين... نعم لا صريخ ولا منقذ لمن شاء اللّه أن يغرقه إلا اذا شملته رحمة من اللّه تعالى. و(رحمة) و(متاعا) مفعول لاجله، والاستثناء مفرغ حيث لم يذكر المستثنى منه وهو في التقدير (لا ينقذون لسبب من الاسباب) إلا لرحمة تشملهم من اللّه تعالى، فالمنقذ هو اللّه تعالى، وهو لا ينقذهم إلا لرحمة شملتهم، وليمتعهم في الدنيا متاعا الى حين، أي إلى أجل محدد، فالموت آت لا محالة، وانما يسلمون من موت الى موت كما قال المتنبي:
ولم أسلم لكي أبقى ولكن سلمت من الحِمام الى الحِمام