وَإِذا قيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْديكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضينَ (46) وَإِذا قيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّه قالَ الَّذينَ كَفَرُوا لِلَّذينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللّه أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ في ضَلالٍ مُبينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
وإذا قيل لهم اتقوا ما بين ايديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون... الضمير في قوله (لهم) يعود إلى مشركي مكة والجزيرة العربية حيث كان الكلام في أول السورة حولهم، ثم مثّل لهم بقصة أصحاب القرية، ثم ذكّرهم بالآيات الكونية. وفي هذا المقطع يؤنّبهم بأنهم إذا واجهوا الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم والمؤمنين، حيث يأمرونهم بتقوى اللّه تعالى واتقاء غضبه وعذابه، يُعرضون بل يستهزئون كما مر في آية سابقة أن العباد يستهزئون بكل رسول يأتيهم.
ومن هنا فان المراد بقوله تعالى (واذا قيل لهم..) اي اذا قال لهم الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلّم او المؤمنون (اتقوا الله تعالى) او نحو ذلك أعرضوا.
واختلف المفسرون في المراد بقوله تعالى: (ما بين أيديكم وما خلفكم) ففي مجمع البيان (روى الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: معناه اتقوا ما بين أيديكم من الذنوب وما خلفكم من العقوبة) [1]والرواية مرسلة ولم نجدها في مصدر آخر ولكن المعنى لا بأس به فالمراد بما بين أيديكم ما هو حاضر لديكم من الاعمال وبما خلفكم نتائجها يوم القيامة، وكما يمكن أن يعبّر عمّا يأتي بكونه أمامك يصح أن يعبر أنه خلفك.
وقيل: معناه اتقوا ما بين أيديكم من أمر الآخرة فاعملوا لها وما خلفكم من أمر الدنيا فاحذروها ولا تغتروا بها.
ولكنه بعيد بالنسبة للتعبير عن أمور الدنيا بما خلفكم فان بعضها حاضرة.
وقيل: اتقوا ما مضى ويأتي من الذنوب.
وقيل: اتقوا عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
وقيل: اتقوا موجبات الغضب والعذاب وهي محيطة بكم من كل جانب فإن لم تتقوا يوشك أن تقعوا فيها وعليه فالتعبير كناية عن الإحاطة.
وهذا ايضا بعيد من جهة ظهور العطف في الفرق بين القسمين وأن ما بين أيديكم مغاير لما خلفكم ومن هنا فالمعنى الاول هو الاقرب بين المحتملات المذكورة.
وقوله: (لعلكم ترحمون) يدل على أنّ الرحمة قد لا تترتب على التقوى، وانما تهيء التقوى أرضية صالحة لنزول الرحمة.. ومثلها قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) النور: 56، وغيرها من الآيات. والسبب واضح فان المتقين أيضا في خطر عظيم، وعلى المؤمن ان يسأل ربـه دائما حسن العاقبة. والجملة تعليلية اي لكي ترحموا.
والجواب في الجملة الشرطية (واذا قيل لهم..) محذوف لعله لغاية فظاعته، خصوصا بملاحظة هذه الآيات التي يرونها، وتقديره (أعرضوا) ونحو ذلك، وتدلّ عليه الآية التالية وهو إعراضهم عن كل آية من آيات اللّه تعالى.
وما تأتيهم من آية من آيات ربهم الا كانوا عنها معرضين... المراد الآيات النازلة من السماء عن طريق الوحي، لأنها هي التي تأتي اليهم، فتشمل الاوامر بالتقوى.. ومنها ما ورد في الآية السابقة فكأنه قال: واذا قيل لهم اتقوا او غير ذلك من آيات ربهم فإنهم يعرضون عنها ولا يلفت ذلك انتباههم.
والتعبير بالرب للتنبيه على أن كل هذه الآيات إنما تأتي في سياق تربيتهم، وذكره في هذا المقام تمهيد لما سيأتي من مسارعتهم للتوجه نحو الرب يوم القيامة بعد إعراضهم عن آياته. وقوله (كانوا) يدل على الإستمرار أي أن ذلك دأبهم وديدنهم.
واذا قيل لهم انفقوا مما رزقكم اللّه قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء اللّه أطعمه ان أنتم الا في ضلال مبين... تـتعرض الآية لمقولة أخرى من كفار مكة وغيرهم في مواجهة المؤمنين ودعوتهم للخير والصلاح. وربما يستغرب مضمون الآية من جهة ان العرب عرفت بالجود والسخاء، فكيف كانوا يمتـنعون من الإنفاق بحيث يكون ذلك ظاهرة عامة فيهم، تستوجب نزول آية بشانهم؟! وهذا ما دعا بعض المفسرين الى اختلاق احتمالات غريـبة.
والظاهر أن الباعث للمشركين الى عدم استجابة الدعوة هو أنهم أُمروا بالإنفاق مما رزقهم اللّه، وفي ذلك اشارة الى أن يكون الداعي طلب مرضاته تعالى وهم كانوا ينفقون أموالهم رياءا وسمعة وطلبا للمجد وثـناء الشعراء، وهذا لا يعتبر فضيلة بل هو رذيلة، وقلّما كان بينهم إنفاق طلبا للخير وبعيدا عن الرياء. وحتى لو كان ذلك فان الطلب من المؤمنين يشتمل على هذه الميزة وهو اعتقاد أن هذا المال مما رزقنا اللّه، فعلينا أن نأتمر فيه بأوامره وهذا هو الموجب للكمال الحقيقي، واما الإنفاق حبا للناس ونحو ذلك مما يذكر في زماننا ــ فهو وإن كان حسنا إن لم يكن طلبا للجاه والترفع ــ ولكنه ليس هو الكمال المطلوب.
ولعله لهذا ورد التصريح بذكر المتخاطبين في الآية الكريمة مع ان السياق يقتضي الإتيان بالضمير، فالمراد التنبيه على أن الموضوع يرتبط بالإيمان والكفر لا بالبخل والسخاء.
وأما جواب الكافرين فالظاهر انه يـبتـني على المجادلة مع المؤمنين في ما دعوا اليه، حيث إنّ المؤمنين اعتبروا أموالهم رزقا من اللّه تعالى، وطلبوا منهم أن ينفقوا منها على الفقراء، فأجاب الكفار بأنّ اللّه لو شاء لرزقهم كما رزقنا إذ لا موجب لأن يمتنع من دفع رزقهم إليهم مباشرة، ويدفع الينا سهمهم من الرزق، ثم يطلب منا أن ندفع اليهم رزقهم، فلو كان لهم سهم في رزق اللّه، لرزقهم مباشرة ولوضوح هذا الإستدلال عقّبوا كلامهم بأنّكم في ضلال مبين واضح.
والجواب عن ما ذكره الذين كفروا واضح أيضا إذ أنّ اللّه تعالى لا يبعث بالرزق الى أحد مباشرة، وانما يعتبر ما يكسبه كل أحد بكدّ يمينه وبفكره، رزقا من اللّه تعالى، لأنه هو الذي هيّأ له هذه الوسائل الطبيعية، ومنحه تلك القوة والاستعداد، ووفقه لكسب المال. وليس كل أحد يتهيّـأ له بصورة طبيعية كل تلك الوسائل، ويأبى اللّه تعالى أن يغيّر سنته في الكون.. وبذلك يفسح المجال لامتحان الإنسان واختباره. وكل ما يحصل للإنسان في هذه الحياة من ضيق وسعة، مجال للامتحان ولتكامل الانسان ونموّه.
وقيل: إنّ جواب الكافرين يبتني على الخلط بين الإرادة التشريعية والتكوينية، فكأنّـهم يدّعون أن اللّه تعالى لا يمكن أن يأمر بذلك، إذ لو شاء لأطعمهم وهذه المغالطة تكررت منهم، نظير ما ورد من ان اللّه شاء ان نشرك فلا سبيل لنا الا الشرك كما قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللّه مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ..) النحل: 35، وغيرها من الآيات، بل ربما كانوا يدّعون أن اللّه تعالى أمرهم بذلك كما قال تعالى: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللّه أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّه لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ..) الأعراف: 28.
ولكن ما ذكر لا يرتبط بالعبارة المنقولة منهم في هذا المقام كما يظهر بملاحظة ما ذكرناه في توضيح جواب الكافرين عن اقتراح المؤمنين.
ويقولون متى هذا الوعد ان كنتم صادقين... هذا سؤال متكرر منهم، فتارة يسألون به عن موعد العذاب الدنيوي، وتارة عن الساعة اي يوم نهاية النظام الكوني وبداية نظام جديد حيث كانوا ينذرون بهما.
ومبنى السؤال أنه لو كنتم صادقين في هذا الوعيد والإنذار، فلا بدّ لكم من معرفة زمانهما، فحدّدوا لنا اليوم بدقّة.
ويأتي الجواب في بعض الآيات بنفي العلم بالموعد إذ لا ملازمة بين معرفة أصل الحادثة ومعرفة الموعد، خصوصا اذا كان العلم بها مبنيا على أساس الأخبار الغيبية التي لم تفصح عن الموعد.
ويأتيهم الجواب هنا قارعة مدوّية:
ما ينظرون الا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمّون... ينظرون اي ينتظرون، فكأنّـهم اذ يسألون عنه ينتظرونه مع أنهم لا ينتظرونه واقعا وإنما يسألون استهزاءا وتكذيبا، ولكنّ الجواب يبتني على عدم إمكان التكذيب.
والصيحة هي الصوت المدوّي. وقد مرّ أنّ التعبير بذلك للإشارة إلى سرعة الحدوث وسهولة الأمر، كأنّـه لا يحتاج الى شيء إلا إلى صيحة واحدة تأخذهم أي تستولي عليهم، كأنّـها بنفسها العذاب قد أحاط بهم وهم في حالتهم العادية يتداولون أمور دنياهم، ويختصمون في أمور البيع والشراء وغير ذلك، فتأتيهم بغتة كما ورد التعبير به في آيات كثيرة. ويخصّمون في الأصل يختصمون، و قد أبدلت التاء صادا وأدغمت.
فلا يستطيعون توصية ولا الى أهلهم يرجعون... أي لا يمهلهم لأن يوصوا إلى من بعدهم وليس هناك من يوصون إليه الا أنه مجرد فرض وإنما اتى بالوصية نكرة، للنفي التام، أي لا يمكنهم أي وصية.. وهذا أيضا تصوير لحالة المباغتة والمفاجأة. ولا يرجعون الى أهلهم بل لا أهل لهم، فالكل قد أصيب.
ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون... وهنا تأتي موعد النفخة الثانية. والواقع أن هذا هو الذي يكذّبونه لأنهم انما يكذّبون قيام القيامة، والحياة بعد الموت، ولا يمنعون احتمال فناء الدنيا بحادث كوني هائل، وإنما يأتي الجواب بذكر الصيحة المهلكة تخويفا لهم ولأن النفختين متلازمتان، فالأولى مقدمة للثانية.
وقد ورد التصريح بهما في قوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللّه ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) الزمر: 68، والصور قرن الثور، يصنّع فينفخ فيه ويصدر منه صوت عال، فيستخدم في إعلان الحرب ونحوه.. والنفخ في الصور كناية عن سرعة الأمر وسهولته إذا اراده اللّه، فكأنّ صورا ينفخ فيه، فإذا هم قيام فجأة وهم أحياء ينظرون.
ومن الغريب ما نسب إلى بعض اهل اللغة ــ على ما في لسان العرب ــ من ان الصور جمع صورة وان المراد النفخ في صور الموتى فيقومون، وأجاب عنه بعضهم بوجوه، ولم ينتبه الفريقان الى الآية المذكورة آنفا، حيث إن النفخة الأولى ليست للإحياء بل للإماتة، فبطلان القول واضح. مضافا الى أن الضمير في قوله تعالى: (ثم نفخ فيه اخرى) مذكر فلا يصح أن يعود الى الصور اذا كان جمعا.
ومهما كان فنفخة في الصور تكفي لإحياء الموتى بل هو أسرع من ذلك. قال تعالى: (وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَر) القمر: 50. والجدث ــ بفتحتين ــ القبر. والنسل هو الإسراع في المشي. والتعبير يصورهم مهرولين إلى ربهم الذي رباهم، فكل يريد أن يجد نتيجة سيرته، كأنهم تلاميذ مدرسة يهرولون لأخذ نتائج الإمتحان وأكثرهم يعلمون أن أيديهم صُفر، وأن نتيجتهم الصفر، ولكن لا ملجأ من اللّه إلا إليه، فأين يذهبون، وقد كشف الغطاء عنهم، وعلموا أن اللّه هو الحق، وأن ما كانوا يدعون من دونه هو الباطل، واُسقط في ايديهم، فلا حيلة لهم إلا الإسراع إلى الرب بعد أن أعرضوا عنه وعن آياته.
قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا... يقولون ذلك وهم مسرعون الى ربهم يدعون بالويل والثبور ويسألون في استغراب: من بعثهم من رقدتهم؟ والمرقد مصدر، ويحتمل في هذا التعبير أن يكون المرقد كناية عن القبر وهو تعبير دارج، والسؤال ليس للإستفهام خصوصا اذا فرض الجواب منهم أيضا، وإنما هو للإستغراب ومقدمة للإعتراف بما كذّبوا به في الحياة الدنيا، ويحتمل أنهم لا يشعرون في عالم البرزخ بشيء، بل يستمرون في غفلة كأنّهم نيام كما ورد في الحديث أن اكثر الناس يلهى عنهم. [2]
هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون... الظاهر ان الجواب منهم بقرينة تصديق المرسلين. والتوصيف بالرحمن توسل منهم برحمته يوم لا ينفع التوسل، كما لا ينفعهم تصديق المرسلين بعد طول تكذيب.
ويحتمل أن يكون الجواب من الملائكة ، فالتوصيف من جهة ظهور رحمته في ذلك اليوم ظهورا بينا يفوق كل التوقعات إذ لولا رحمته لم يسلم أحد من عذابه. و(ما) في قوله (ما وعد الرحمن) موصولة، والعائد محذوف اي ما وعد به الرحمن، وجملة (وصدق المرسلون ) استينافية.
إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون... اسم (كانت) الحادثة او الواقعة، و(اذا) فجائية، و(جميع) بمعنى مجموع وهو خبر للضمير، و(محضرون) خبر ثان، يعني ان بعثكم لم يتوقف على شيء إلا صيحة واحدة فتجدون أنفسكم فجأة مجتمعين ومحضرين أمام اللّه تعالى وليس الحضور باختيارهم بل يحضرون قسرا.
وقد مر الكلام حول مغزى كونهم مجتمعين وقلنا إن المجتمعات البشرية تحضر هناك مجتمعة، فإن بعض الأعمال لا تظهر قيمتها وأثرها السلبي والإيجابي إلا في اطار المجتمع، وهناك مصير يخص المجتمع بينما لكل فرد مصيره الخاص ايضا، كما ان هناك كتبا بعدد الأفراد وكتبا للأمم، قال تعالى: (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا..) الجاثية: 28 ، وقال ايضا: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) الاسراء: 14.
فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون الا ما كنتم تعملون... أي لا تظلم شيئا من الظلم فهو مفعول مطلق او الشيء مفعول به وهو كناية عن القلة كقوله تعالى: (وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) النساء: 124. والجملة التالية تبين السر في نفي الظلم مطلقا وهو أن الإنسان يُجزى بنفس عمله وأي عدل فوق هذا ؟!
وأما كيف يجزى بنفس العمل؟ فأمر لا يصل إليه أفهامنا إلا ما نجده من أنفسنا من العذاب في الضمير إذا تذكّرنا العمل مع أنا لا نعلم فظاعته الحقيقية.. وحيث يتبين الحق ناصعا في تلك النشأة ويشعر الإنسان بفظاعة عمله ويجده ملصقا به، لا يكاد يغفل عنه لحظة وذلك أشد العذاب.
وعليه فلا حاجة إلى تقدير كما قالوا من أن المقدر الا جزاء ما كنتم تعملون، مع أن هذا التقدير يفقده ميزة تعليله لعدم الظلم لأن الجزاء حينئذ مبهم، فإن كان أمرا يتعين بجعل جاعل، أمكن أن يكون ظلما.
ثم ان هذه الجملة وأشباهها مما ينقل عن الخطابات يوم القيامة لا يجب أن تكون مقولة قول، حتى يُبحث عن قائله ــ كما في التفاسير ــ فكثيرا ما تكون حكاية الحال ليس إلا.
هذا وقد وقع الكلام بين المفسرين في أن هذا الحكم خاص بأهل النار أم يشمل أهل الجنة أيضا، فقال بعضهم: ان اهل الجنة لا يجزون ما عملوا بل لهم ما يشاؤون ولهم المزيد. ولكن الآيات التي ورد فيها هذا المضمون وإن كان أكثرها يخص أهل النار كالآية التي نتحدث عنها، وبعضها مطلقة او عامة، إلا أن هناك من الآيات ما تصرح بالحكم في أهل الجنة بالخصوص. قال تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعيداً) آل عمران: 30، وإحضار العمل جزاء.
ولا ينافي ذلك أن اللّه تعالى يزيدهم من فضله فان الزائد ليس جزاءا، كما لا ينافيه أن المتقين ليسوا رهينة أعمالهم على ما في قوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهينَةٌ * إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمينِ) المدثر: 38 ــ 39. والإعتبار أيضا يؤيد ذلك فإن الأعمال لا تنفك عن الإنسان إلا ما كفّـره اللّه تعالى من الأعمال القبيحة أي ستره.. ولا فرق في ذلك بين الأعمال الصالحة والسيئة.