إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ في شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ في ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحيمٍ (58)
تذكر الايات وما بعدها حال المؤمنين ثم المجرمين كتفصيل لما أجمل في الآية السابقة من أن كل نفس تجزى بعملها.
إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون... الآية فريدة في مضمونها وهي أن اصحاب الجنة مشغولون. والشغل ــ بضم الغين وسكونه ــ كل ما يشغل بال الانسان ويمنعه من التوجه الى الغير سواء كان خيرا أم شرا، وحيث انهم لا يشغلهم شر في الجنة عقّبه بقوله تعالى: (فاكهون) وهو خبر بعد خبر ليتبين انهم مشغولون بالملذّات.
و(فاكه) و(فكه) اي طيّب النفس المـزّاح والضحوك، ومنه المفاكهة اي المزاح. وهذه الآية توضح ان اهل الجنة لا يملّــون ولا يسأمون من طول البقاء، كما قال تعالى: (لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلا) الكهف: 108. وقد كثر الكلام في ما يشغلهم وهو مما لا طائل تحته، فإن الآية تبين أنهم مشغولون بالمفاكهة وسائر الملذات، كما أشار إليه في الآيات الثلاث الآتية وأهمها أخيرتها.
هم وازواجهم في ظلال على الأرائك متكئون... يمكن أن يكون كل من (في ظلال) و(على الارائك) و(متكئون) خبرا بعد خبر، ويمكن أن يكون الأخير خبرا وما قبله متعلق به. والمراد بالأزواج إمّا الأقران، فإن المتقين يجتمعون مع بعض كما قال تعالى: (وَنَزَعْنا ما في صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلينَ) الحجر: 47، وإماالأزواج من المؤمنات ومن الحور العين. والأرائك جمع أريكة اي السرير.
وكونهم في ظلال، ربما يدل على أن هناك شمسا او ما يشبهها. ولا يبعد ذلك ولكنها شمس لا تضر ولا تؤذي. ولا ينافيه قوله تعالى: (مُتَّكِئينَ فيها عَلَى الأرائِكِ لا يَرَوْنَ فيها شَمْساً وَلا زَمْهَريراً) الدهر: 13، لقوله تعالى في الآية التاليـة: (ودانية عليهم ظلالها..) فلعل عدم رؤية الشمس من جهة أنهم دائما في ظل، والغرض بيان إلتفاف شجر الجنة وطول ظلها. ويمكن أن يكون التعبير بالظلال كناية عن عدم وجود الشمس والإضحاء فهم دائما في نهار ظليل.
لهم فيها فاكهة ولهم ما يدّعون... لعل التنكير في الفاكهة للتفخيم أي فاكهة أيّما فاكهة، وفي ذلك إشارة إلى أن ما يؤتونه من طعام، ليس لدفع الجوع او للتقوّي ــ كما هو الحال في الدنيا ــ وإنما يتناولون ما يتناولون للتلذذ والتفكه فحسب. وما يدّعون بمعنى ما يتمنّون أو ما يطلبون وهو افتعال من الدعاء.
سلام قولا من ربّ رحيم... وهذا أهم وأعظم ما في الجنة من نعمة، بل لولا ذلك لم يكن غيره نعمة. والظاهر أن هذا سلام من اللّه سبحانه، لا من قبل الملائكة، ولا بواسطتهم. وفي التعبير ما يوحي بغاية اللطف والعناية، حيث ان السلام المبعوث لهم، ليس وحيا ولا كتابا، بل قولا وهو من رب رحيم بهم، ويظهر ان السلام هنا قول على حقيقته يُقال لهم وليس معناه ان السلام ثابت وجودا كما ورد في موارد عديدة ومنها التعبير عن الجنة بدار السلام، فالسلام في هذه المواضع بمعنى السلامة المطلقة من كل ما يكدّر صفو العيش، ولكنه هنا قول يصدر من ربّ الرحمة إكراما لهم ولطفا بهم. و(قولا) مفعول مطلق تقديره يقال قولا.
والتوصيف بالرب يفيد أن ما يلقونه من الثواب والجزاء والاكرام حاصل تربيتهم ووصولهم الى درجات راقية من الكمال، والتوصيف بالرحيم يفيد أن ذلك من آثار رحمته البالغة الخاصة بالمؤمنين فان الرحيم من صيغ المبالغة ولكنه يدل على الثبات ولذلك يختص برحمته في الآخرة الخاصة بالمؤمنين، بخلاف الرحمن فانه ايضا من صيغ المبالغة ولكنه يدل على التوسع والشمول ولذلك يعم غير المؤمن ويختص بالدنيا.