مكتب سماحة السيد مرتضى المهري

أولم ير الانسان أنا خلقناه من نطفة فاذا هو خصيم مبين... يقال إن بعض المشركين أخذ عظما باليا، فجاء به الى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم، يخاصمه ويتحداه فقال: أنت تقول إن هذا العظم سيحيا وقد رمّ ، وهو في نفس الوقت يفتته بيده! فقال له النبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم: (نعم ويبعثك ويدخلك جهنم)[1].

فيقال: إن هذه الآيات نزلت جوابا عنه، فإن لم يكن فهو جواب عن المقولة التي  كانوا يتداولونها، فإنّ هذه كانت الفكرة السائدة في ذلك المجتمع، حيث كانوا يستغربون: كيف يمكن أن يحيي اللّه العظام البالية المندرسة التي صارت ترابا ومضى عليها القرون؟!

وتبدأ الآية بتحقير أصل الإنسان في تكوّنه، ليظهر اللّه تعالى له قدرته في تطويره إلى أن بلغ به المقام أن يتمكن من التعبير عمّا في نفسه، ويخاصم ربه الذي خلقه! أولم ير الانسان... والتعبير بالرؤية من جهة أنّ تكوّن أصله، مشهود له من جهة مشاهدة أمثاله وإن لم يشهد تكوّن نفسه.. ولا حاجة إلى تفسيره بالعلم وإن صح في حد ذاته.

والسياق يسقط التطورات ويظهره كأنه فجأة تحول إلى خصيم مبين، بعد أن كان أصله نطفة نتنة قذرة حقيرة. وقد مرّ التنويه على أن المفاجأة، ربما تطلق من جهة استغراب الشيء الحاصل وإن لم يكن حدوثه مفاجئا وسريعا.. وهذا تعبير سائد فمثلا تقول: فوجئت به يفعل كذا، أي لم يكن ذلك في الحسبان.

والنطفة: القطرة من الماء. والمبين يمكن أن يكون بمعنى انه يعلن مخاصمته لربه دون حياء أو لأنه يبيّن ما يدور في خلده، في إشارة إلى قدرته على النطق الذي هو ميزة الإنسان، فيكون الغرض بيان غاية ما وصل إليه من تكامل في الجسم.

وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم... هذه الآية تذكر موردا من موارد مخاصمة الإنسان لربّه حيث قال: (من يحيي العظام وهي رميم) واعتبر هذا ضربا للمثل لغرابة كلامه كما قيل، او لأنّه مثّل قدرة الله تعالى بقدرة الانسان فجعل له مثالا من خلقه وحيث لا يمكن للخلق أن يحيوا عظما رميما، حكم بمثله على قدرته تعالى.

وقوله: (ونسي خلقه) جملة حالية أي ضرب هذا المثل وهو ناس خلقه، حيث خلقه اللّه تعالى من نطفة لا تحمل على الظاهر مميزات الإنسان.

والرميم: العظام البالية، وهو بمعنى المرموم من رمّ الشيء اي أبلاه، وهو من الأضداد إذ يأتي أيضا بمعنى أصلح الشيء. والفعيل بمعنى المفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، ولذلك أُتي به وصفا للعظام. وفيه وجوه أخرى.

قل يحييها الذي أنشأها أوّل مرة وهو بكل خلق عليم... الجواب واضح وصريح، فالذي خلقه من البدو ولم يكن شيئا مذكورا، قادر على أن يعيد خلقه. والإنشاء هو الإبداع وقوله: (اول مرة) تأكيد اذ يغني عنه التعبير بالإنشاء، فالذي أبدع خلق الإنسان أول مرة ــ حين لم يكن بهذه الصورة موجودا وكانت المواد متفرقة ليس فيها تركيب عضوي ولا فيها حياة ــ قادر على إحيائه بعد الموت، فإنه هو واهب الحياة لتلك المواد الميتة المتفرقة.

وهو عليم بكل خلق أي بكل مخلوق، أي يعلم ما يتوقف عليه خلقه. والعليم صفة مبالغة تدل على ثبوت الصفة فان اللّه تعالى لا يطرأ عليه الجهل والنسيان.

الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون... بيان لأحد مظاهر القدرة الخلاقة للتدليل على المضمون السابق. والذي يبدو أن المفسرين القدامى حيث رأوا أن الآية تركز على وجود النار في الشجر الأخضر مع أن الغالب أن اليابس هو الذي يُستفاد منه في الوقود، ففسروا الآية بأنّ المراد به المرخ (بفتح الميم وسكون الراء) والعفار (بفتح العين) قالوا انهما من الزناد وأنّ العرب كانت توقد النار بحكّ المرخ على العفار، وفسروا الآية بأن وجه التوصيف به أن اللّه تعالى قد جمع في هذا الشجر الأخضر، النار والماء وهما متضادان، فكذلك يقدر أن يجمع في العظم البالي الموت والحياة.

ولكن الظاهر أن المراد هو جعل الشجر وقودا لا زنادا لقوله تعالى (من الشجر) ولم يقل بالشجر وقال تعالى (فاذا أنتم منه توقدون) ولم يقل به توقدون. ومفاد الآية أنه تعالى جعل منه نارا لا زنادا مع أن الزناد لا يختص بالشجر، بل الغالب فيه إستخدام الأحجار؛ هذا على تقدير صحة ما قالوه في المرخ والعفار.

ومثله القول في قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتي‏ تُورُونَ * أأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ * نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوينَ) الواقعة: 71 ــ 73 ، وهو هنا أوضح، اذ الذي جعله اللّه تذكرة ومتاعا، هي النار المشتعلة.. فالمراد التنبيه على أن اللّه تعالى جعل لكم الشجر وقودا.

ولعل التركيز على خضرته للإشارة إلى ما قيل من أن الشجر حين اخضراره، يمتصّ الطاقة وتبقى كامنة فيه إلى ان ييبس الشجر ويتّقد نارا، ولكن المفسرين القدماء كانوا يعتبرون ذلك مجرد إشارة الى غرابة جمعه بين الماء وامكان الإتّقاد.

وأما قوله تعالى: (فاذا أنتم منه توقدون) حيث دلّ على المفاجأة فهو من جهة التعجيب ــ كما مرّ مرارا ــ والعجيب هو الاتقاد من الشجر الأخضر ولو بعد يبسه. ولعل السر في التنبيه عليه الإشارة الى أن الذي جعل في الشجر الأخضر هذه الميزة، حيث يمتصّ الطاقة الكامنة وتختبئ فيه ما دام حيا مخضرّا، ثم تشتعل بعد موته ويبسه، قادر على أن يجمع في الجسم الحيّ قابلية الحياة والحركة فيبرزها بعد موته وبلاه.

أوليس الذي خلق السماوات والارض بقادر على أن يخلق مثلهم... عود إلى الإستدلال على القدرة على الإحياء بأنه أهون من بدء الكون وإبداعه، لأن المراد بالسماوات والأرض ــ كما قلنا مرارا ــ هو كل الكون.. وبهذا المعنى اعتبره اللّه تعالى أكبر من خلق الناس. قال تعالى: (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُون‏) غافر: 57، مع أنه سبحانه قال في خلق الانسان: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ في‏ أَحْسَنِ تَقْويم‏) التين: 4، وانما كان خلق السماوات والارض أكبر لأنه خلق الكون من العدم وابتدعه ابتداعا من غير مثال ولا مادة سابقة..

ففي هذه الآية يقول ان الذي خلق الكون من العدم قادر على خلق أمثال ما خلق، لسبق المثال، فالضمير في (مثلهم) إما أن يرجع الى السماوات والأرض باعتبار شمولهما على ذوي العقول أو إلى البشر كما هو محل السؤال، وهو الأقرب.

وإنما اعتبر كونهم مثلهم، لا نفسهم، لأن الصورة تنعدم، فالذي يحيا ليس هو نفس الصورة وإن كان من نفس المواد المتفرقة ــ على ما يقوله اكثر علماء المسلمين ــ فهو اذا مثله. وأما اذا قلنا ــ كما قال بعضهم ــ إنه لا يلزم أن يكون من نفس المواد وان الجسم انما يكون جسم زيد مثلا لأنّه متعلق بروحه، فلو تبدّل كل الجسم من حيث المواد إلى جسم آخر وتغيّرت صورته، فإنه لا تتغيّر حقيقته التي هي النفس البشرية، فعلى هذا القول تكون المثلية أوضح.

بلى وهو الخلاق العليم... (بلى) كلمة جواب تدل على الاثبات اذا كان السؤال عن النفي فمفادها أنه قادر على ذلك. والجملة التالية دليل عليه. والخلاق مبالغة في الخالق والمراد به القدرة على الخلق. والعليم ايضا مبالغة في العالم. والصيغة تدل على الثبات فهو عالم بكل شيء لا يزول علمه. والاستدلال باعتبار أنّ إعادة الخلق لا تحتاج إلا الى القدرة والعلم. وقدرته وعلمه تعالى غير متناهيين.

إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون... تبيّن الآية أن اللّه تعالى إذا أراد أن يخلق شيئا، فلا يحتاج إلى أمر آخر لكي يوجد وإنما إرادته تستتبع الوجود بلا واسطة، لا يختلف عنده الكبير والصغير، والعظيم والحقير، والخلق الأول والإعادة.

وكلمة (كن) تعبير عن الإرادة وإلا فليس هناك لفظ يقال ولا عمل يعمل إذ لو كان كذلك لاحتاجت تلك اللفظة او العمل إلى إرادة اخرى وكلمة أخرى وهكذا يتسلسل، والتسلسل مستحيل. مضافا الى أن الشيء غير موجود حتى يخاطب بالأمر بالكون، وهذا واضح. فليس هناك ما يفصل بين ارادته تعالى شيئا وتحقق ما يريد.

ولذلك قال أمير المؤمنين عليه السلام على ما في نهج البلاغة (يَقُولُ لِمَنْ أَرَادَ كَوْنَهُ كُنْ فَيَكُونُ لَا بِصَوْتٍ يَقْرَعُ وَلَا بِنِدَاءٍ يُسْمَعُ وَإِنَّمَا كَلَامُهُ سُبْحَانَهُ فِعْلٌ مِنْهُ أَنْشَأَهُ).

وفي حديث رواه الكليني والصدوق بسند صحيح عن الامام الرضا عليه السلام قال (وأما من الله تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك لانه لا يروّي ولا يهمّ ولا يتفكّر، وهذه الصفات منفية عنه وهي صفات الخلق، فإرادة الله الفعل لا غير ذلك يقول له كن فيكون بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همة ولا تفكر ولا كيف لذلك، كما أنه لا كيف له).

ولا ينافي ذلك التعبير عنه بالقول هنا وأوضح منه في قوله تعالى (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) النحل: 40. وكذلك التعبير بالامر في هذه الآية ولا حاجة الى تفسيره بالشأن كما في الميزان، فكل ذلك تعبير عن حقيقة واحدة وهي الارادة وارادته تعالى فعله لا يتقدمه تصور وشوق وهمّ.

انما الكلام في تدرج المخلوقات في عالم الطبيعة؟ قال العلامة الطباطبائي (ان الذي يفيض منه تعالى لا يقبل مهلة ولا نظرة ولا يتحمل تبدلا ولا تغيرا، ولا يتلبس بتدريج وما يتراءى في الخلق من هذه الأمور إنما يتأتى في الأشياء في ناحية نفسها لا من الجهة التي تلي ربها سبحانه وهذا باب ينفتح منه ألف باب).

وقال في تفسير قوله تعالى (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) آل عمران: 59 (فهذه الموجودات بأجمعها أعم من التدريجي الوجود وغيره مخلوقة لله سبحانه موجودة بأمره الذي هو كلمة كن كما قال تعالى: «إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»: يس- 82، وكثير منها تدريجية الوجود إذا قيست حالها إلى أسبابها التدريجية. وأما إذا لوحظ بالقياس إليه تعالى فلا تدريج هناك ولا مهلة كما قال تعالى: «وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ»: القمر- 50).

ولكن الموجود التدريجي ليس الا عنوانا اعتباريا لمجموعة موجودات متتالية تحقق كل منها فعل من أفعاله تعالى كما أن الحركة ليست الا وجود الشيء في أماكن مختلفة وانتقاله من مكان الى آخر وكل ذلك حوادث متتالية يتوقف تحقق كل منها الى ارادة من الله تعالى فلا حاجة الى هذا التوجيه.

فسبحان الذي بيده ملكوت السماوات والارض... ختم السورة المباركة بتنزيه اللّه سبحانه عما يقوله الظالمون والجاهلون حيث يزعمون لقدرته تعالى حدودا لا يمكنه اجتيازها، مع أنه تعالى بيده ملكوت السماوات والأرض.

والملكوت مبالغة في الملك، والمعنى أن الملك الحقيقي لله تعالى وهو عبارة عن افتقار الكل اليه في الوجود، فلا استقلال لشيء من دون إرادته، والكل في قبضته. واليد كناية عن القدرة.

وإليه ترجعون... لعله تهديد لمن أنكر قدرته تعالى على الإحياء بأن مرجعكم إليه وحسابكم عليه والحمد للّه رب العالمين.

 

[1] تفسير الآلوسي ج23 – ص79 و في تفسير البيضاوي 4/443 " ... و يدخلك النار " و في البحار 7/49 نقلا عن الدواني أن الآية نزلت في حق أبي بن خلف .